وفيه رد على طوائف المشركين من الوثنية والثنوية وأهل الشرك الخفي. والصفة الرابعة (وخلق كل شئ) من الموجودات (فقدره تقديرا) أي قدر كل شئ مما خلق بحكمته على ما أراد وهيأه لما يصلح له. قال الواحدي قال المفسرون: قدر له تقديرا من الأجل والرزق، فجرت المقادير على ما خلق. وقيل أريد بالخلق هنا مجرد الإحداث والإيجاد مجازا من غير ملاحظة معنى التقدير وإن لم يخل عنه في نفس الأمر، فيكون المعنى: أوجد كل شئ فقدره لئلا يلزم التكرار، ثم صرح سبحانه بتزييف مذاهب عبدة الأوثان فقال (واتخذوا من دونه آلهة) والضمير في اتخذوا للمشركين وإن لم يتقدم لهم ذكر، لدلالة نفي الشريك عليهم: أي اتخذ المشركون لأنفسهم متجاوزين الله آلهة (لا يخلقون شيئا) والجملة في محل نصب صفة لآلهة: أي لا يقدرون على خلق شئ من الأشياء وغلب العقلاء على غيرهم، لأن في معبودات الكفار الملائكة وعزير والمسيح (وهم يخلقون أي يخلقهم الله سبحانه. وقيل عبر عن الآلهة بضمير العقلاء جريا على اعتقاد الكفار أنها تضر وتنفع. وقيل معنى (وهم يخلقون) أن عبدتهم يصورونهم. ثم لما وصف سبحانه نفسه بالقدرة الباهرة وصف آلهة المشركين بالعجز البالغ فقال (ولا يملكون لأنفسهم ضرا ولا نفعا) أي لا يقدرون على أن يجلبوا لأنفسهم نفعا ولا يدفعوا عنها ضررا، وقدم ذكر الضر لأن دفعه أهم من جلب النفع وإذا كانوا بحيث لا يقدرون على الدفع والنفع فيما يتعلق بأنفسهم فكيف يملكون ذلك لمن يعبدهم. ثم زاد في بيان عجزهم فنصص على هذه الأمور فقال (ولا يملكون موتا ولا حياة ولا نشورا) أي لا يقدرون على إماتة الأحياء ولا إحياء الموتى ولا بعثهم من القبور، لأن النشور الإحياء بعد الموت، يقال أنشر الله الموتى فنشروا، ومنه قول الأعشى:
حتى يقول الناس مما رأوا * يا عجبا للميت الناشر ولما فرغ من بيان التوحيد وتزييف مذاهب المشركين شرع في ذكر شبه منكري النبوة، فالشبهة الأولى ما حكاه عنهم بقوله (وقال الذين كفروا إن هذا إلا إفك) أي كذب (افتراه) أي اختلقه محمد صلى الله عليه وآله وسلم، والإشارة بقوله هذا إلى القرآن (وأعانه عليه) أي علي الاختلاق (قوم آخرون) يعنون من اليهود. قيل وهم: أبو فكيهة يسار مولى الحضرمي، وعداس مولى حويطب بن عبد العزى، وجبر مولى ابن عامر، وكان هؤلاء الثلاثة من اليهود، وقد مر الكلام على مثل هذا في النحل. ثم رد الله سبحانه عليهم فقال (فقد جاءوا ظلما وزورا) أي فقد قالوا ظلما هائلا عظيما وكذبا ظاهرا، وانتصاب ظلما بجاءوا، فإن جاء قد يستعمل استعمال أتى ويعدي تعديته. وقال الزجاج: إنه منصوب بنزع الخافض، والأصل جاءوا بظلم. وقيل هو منتصب على الحال، وإنما كان ذلك منهم ظلما لأنهم نسبوا القبيح إلى من هو مبرأ منه، فقد وضعوا الشئ في غير موضعه، وهذا هو الظلم، وأما كون ذلك منهم زورا فظاهر لأنهم قد كذبوا في هذه المقالة. ثم ذكر الشبهة الثانية فقال (وقالوا أساطير الأولين) أي أحاديث الأولين وما سطروه من الأخبار. قال الزجاج: واحد الأساطير أسطورة مثل أحاديث وأحدوثة، وقال غيره: أساطير جمع أسطار مثل أقاويل وأقوال (اكتتبها) أي استكتبها أو كتبها لنفسه، ومحل اكتتبها النصب على أنه حال من أساطير، أو محله الرفع على أنه خبر ثان، لأن أساطير مرتفع على أنه خبر مبتدأ محذوف: أي هذه أساطير الأولين اكتتبها، ويجوز أن يكون أساطير مبتدأ واكتتبها خبره، ويجوز أن يكون معنى اكتتبها جمعها من الكتب، وهو الجمع، لا من الكتابة بالقلم. والأول أولى. وقرأ طلحة " اكتتبها " مبنيا للمفعول، والمعنى: اكتتبها له كاتب، لأنه كان أميا لا يكتب، ثم حذفت اللام فأفضى الفعل إلى الضمير فصار اكتتبها إياه، ثم بنى الفعل للضمير الذي هو إياه فانقلب مرفوعا مستترا بعد أن كان منصوبا بارزا، كذا قال في الكشاف، واعترضه أبو حيان (فهي تملى عليه) أي تلقى عليه تلك الأساطير بعد ما اكتتبها ليحفظها من أفواه