يبالغ الإنسان في السير لعدم الزاد والماء ولخوف الطريق، فإذا وجد الزاد والأمن لم يحمل نفسه المشقة، بل ينزل أينما أراد. والحاصل أن الله سبحانه عدد عليهم النعم، ثم ذكر ما نزل بهم من النقم، ثم عاد لتعديد بقية ما أنعم به عليهم مما هو خارج عن بلدهم من اتصال القرى بينهم وبين ما يريدون السفر إليه، ثم ذكر بعد ذلك تبديله بالمفاوز والبراري كما سيأتي وقوله (سيروا فيها) هو على تقدير القول: أي وقلنا لهم سيروا في تلك القرى المتصلة، فهو أمر تمكين: أي ومكناهم من السير فيها متى شاءوا (ليالي وأياما آمنين) مما يخافونه، وانتصاب ليالي وأياما على الظرفية، وانتصاب آمنين على الحال. قال قتادة: كانوا يسيرون غير خائفين ولا جياع ولا ظمأ، كانوا يسيرون مسيرة أربعة أشهر في أمان لا يحرك بعضهم بعضا ولو لقى الرجل قاتل أبيه لم يحركه. ثم ذكر سبحانه أنهم لم يشكروا النعمة، بل طلبوا التعب والكد (فقالوا ربنا باعد بين أسفارنا) وكان هذا القول منهم بطرا وطغيانا لما سئموا النعمة ولم يصبروا على العافية، فتمنوا طول الأسفار والتباعد بين الديار، وسألوا الله تعالى أن يجعل بينهم وبين الشام مكان تلك القرى المتواصلة الكثيرة الماء والشجر والأمن والمفاوز والقفاز والبراري المتباعدة الأقطار، فأجابهم الله إلى ذلك وخرب تلك القرى المتواصلة وذهب بما فيها من الخير والماء والشجر، فكانت دعوتهم هذه كدعوة بني إسرائيل حيث قالوا - ادع لنا ربك يخرج لنا مما تنبت الأرض من بقلها - الآية مكان المن والسلوى، وكقول النضر بن الحارث - اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء - الآية. قرأ الجمهور " ربنا " بالنصب على أنه منادي مضاف، وقرأوا أيضا " باعد " وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن محيصن وهشام عن ابن عامر بعد بتشديد العين، وقرأ ابن السميفع بضم العين فعلا ماضيا، فيكون معنى هذه القراءة الشكوى من بعد الأسفار، وقرأ أبو صالح ومحمد بن الحنفية وأبو العالية ونصر بن عاصم ويعقوب " ربنا " بالرفع " باعد " بفتح العين على أنه فعل ماضي على الابتداء والخبر. والمعنى: لقد باعد ربنا بين أسفارنا، ورويت هذه القراءة عن ابن عباس، واختارها أبو حاتم، قال لأنهم ما طلبوا التبعيد إنما طلبوا أقرب من ذلك القرب الذي كان بينهم وبين الشام بالقرى المتواصلة بطرا وأشرا وكفرا للنعمة. وقرأ يحيى بن يعمر وعيسى بن عمر " ربنا " بالرفع " بعد " بفتح العين مشددة، فيكون معنى هذه القراءة الشكوى بأن ربهم بعد بين أسفارهم مع كونها قريبة متصلة بالقرى والشجر والماء، فيكون هذا من جملة بطرهم، وقرأ أخو الحسن البصري كقراءة ابن السميفع السابقة مع رفع بين على أنه الفاعل كما قيل في قوله - لقد تقطع بينكم - وروى الفراء والزجاج قراءة مثل هذه القراءة لكن مع نصب بين على أنه ظرف، والتقدير: بعد سيرنا بين أسفارنا. قال النحاس: وهذه القراءات إذا اختلفت معانيها لم يجز أن يقال إحداها أجود من الأخرى كما لا يقال ذلك في أخبار الآحاد إذا اختلفت معانيها، ولكن أخبر عنهم أنهم دعوا ربهم أن يبعد بين أسفارهم، فلما فعل ذلك بهم شكوا وتضرروا، ولهذا قال سبحانه (وظلموا أنفسهم) حيث كفروا بالله وبطروا نعمته وتعرضوا لنقمته (فجعلناهم أحاديث) يتحدث الناس بأخبارهم. والمعنى:
جعلناهم ذوي أحاديث يتحدث بها من بعدهم تعجبا من فعلهم واعتبارا بحالهم وعاقبتهم (ومزقناهم كل ممزق) أي فرقناهم في كل وجه من البلاد كل التفريق، وهذه الجملة مبنية لجعلهم أحاديث، وذلك أن الله سبحانه لما أغرق مكانهم وأذهب جنتهم، تفرقوا في البلاد فصارت العرب تضرب بهم الأمثال، فتقول: تفرقوا أيدي سبا.
قال الشعبي: فلحقت الأنصار بيثرب، وغسان بالشام، والأزد بعمان، وخزاعة بتهامة (إن في ذلك لآيات) أي فيما ذكر من قصتهم وما فعل الله بهم لآيات بينات، ودلالات واضحات (لكل صبار شكور) أي لكل من هو كثير الصبر والشكر، وخص الصبار الشكور لأنهما المنتفعان بالمواعظ والآيات (ولقد صدق عليهم إبليس