في الأنعام (يذرؤكم فيه) أي يبثكم، من الذرء: وهو البث، أو يخلقكم وينشئكم، والضمير في يذرؤكم للمخاطبين والأنعام إلا أنه غلب فيه العقلاء، وضمير فيه راجع إلى الجعل المدلول عليه بالفعل، وقيل راجع إلى ما ذكر من التدبير. وقال الفراء والزجاج وابن كيسان: معنى يذرؤكم فيه يكثركم به: أي يكثركم بجعلكم أزواجا لأن ذلك سبب النسل. وقال ابن قتيبة: يذرؤكم فيه: أي في الزوج، وقيل في البطن، وقيل في الرحم (ليس كمثله شئ) المراد بذكر المثل هنا المبالغة في النفي بطريق الكناية، فإنه إذا نفى عمن يناسبه كان نفيه عنه أولى:
كقولهم: مثلك لا يبخل، وغيرك لا يجود، وقيل إن الكاف زائدة للتوكيد: أي ليس مثله شئ، وقيل إن مثل زائدة قاله ثعلب وغيره كما في قوله " فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به " أي بما آمنتم به، ومنه قول أوس بن حجر:
وقتلى كمثل جذوع النخي * ل يغشاهم مطر منهمر أي كجذوع، والأول أولى، فإن الكناية باب مسلوك للعرب ومهيع مألوف لهم، ومنه قول الشاعر:
ليس كمثل الفتى زهير * خلق يوازيه في الفضائل وقال آخر:
على مثل ليلى يقتل المرء نفسه * وإن بات من ليلى على اليأس طاويا وقال آخر:
سعد بن زيد إذا أبصرت فضلهم * فما كمثلهم في الناس من أحد قال ابن قتيبة: العرب تقيم المثل مقام النفس، فتقول: مثلي لا يقال له هذا: أي أنا لا يقال لي. وقال أبو البقاء مرجحا لزيادة الكاف: إنها لو لم تكن زائدة لأفضى ذلك إلى المحال، إذ يكون المعنى: أن له مثلا وليس لمثله مثل، وفي ذلك تناقض، لأنه إذا كان له مثل فلمثله مثل، وهو هو مع أن إثبات المثل لله سبحانه محال، وهذا تقرير حسن، ولكنه يندفع ما أورده بما ذكرنا من كون الكلام خارجا مخرج الكناية ومن فهم هذه الآية الكريمة حق فهمها وتدبرها حق تدبرها مشى بها عند اختلاف المختلفين في الصفات على طريقة بيضاء واضحة، ويزداد بصيرة إذا تأمل معنى قوله (وهو السميع البصير) فإن هذا الإثبات بعد ذلك النفي للماثل قد اشتمل على برد اليقين وشفاء الصدور وانثلاج القلوب فاقدر يا طالب الحق قدر هذه الحجة النيرة والبرهان القوي، فإنك تحطم بها كثيرا من البدع وتهشم بها رؤوسا من الضلالة، وترغم بها آناف طوائف من المتكلفين، ولا سيما إذا صممت إليه قول الله سبحانه - ولا يحيطون به علما - فإنك حينئذ قد أخذت بطرفي حبل ما يسمونه علم الكلام وعلم أصول الدين:
ودع عنك نهبا صيح في حجراته * ولكن حديث ما حديث الرواحل (له مقاليد السماوات والأرض) أي خزائنهما أو مفاتيحهما، وقد تقدم تحقيقه في سورة الزمر، وهي جمع إقليد، وهو المفتاح جمع على خلاف القياس. قال النحاس: والذي يملك المفاتيح يملك الخزائن. ثم لما ذكر سبحانه أن بيده مقاليد السماوات والأرض ذكر بعده البسط والقبض فقال (يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر) أي يوسعه لمن يشاء من خلقه ويضيقه على من يشاء (إنه بكل شئ) من الأشياء (عليم) فلا تخفى عليه خافية، وأحاط علمه بكل شئ يندرج تحتها علمه بطاعة المطيع ومعصية العاصي، فهو يجازي كلا بما يستحقه من خير وشر.
وقد أخرج أحمد والترمذي وصححه والنسائي وابن جرير وابن المنذر وابن مردويه عن عبد الله بن عمرو قال:
خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وفي يده كتابان، فقال: أتدرون ما هذا الكتابان؟ قلنا لا، إلا أن