والمعنى: أنه لو كان قرآنا لنزل على رجل عظيم من عظماء القريتين، فأجاب الله سبحانه عنهم بقوله (أهم يقسمون رحمة ربك) يعني النبوة أو ما هو أعم منها، والاستفهام للإنكار. ثم بين أنه سبحانه هو الذي قسم بينهم ما يعيشون به من أمور الدنيا فقال (نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا) ولم نفوض ذلك إليهم، وليس لأحد من العباد أن يتحكم في شئ بل الحكم لله وحده، وإذا كان الله سبحانه هو الذي قسم بينهم أرزاقهم ورفع درجات بعضهم على بعض فكيف لا يقنعون بقسمته في أمر النبوة وتفويضها إلى من يشاء من خلقه. قال مقاتل:
يقول أبأيديهم مفاتيح الرسالة فيضعونها حيث شاءوا. قرأ الجمهور - معيشتهم - بالإفراد، وقرأ ابن عباس ومجاهد وابن محيصن - معايشهم - بالجمع (و) معنى (رفعنا بعضهم فوق بعض درجات) أنه فاضل بينهم فجعل بعضهم أفضل من بعض في الدنيا بالرزق والرياسة والقوة والحرية والعقل والعلم، ثم ذكر العلة لرفع درجات بعضهم على بعض، فقال (ليتخذ بعضهم بعضا سخريا) أي ليستخدم بعضهم بعضا فيستخدم الغني الفقير والرئيس المرؤوس والقوي الضعيف والحر العبد والعاقل من هو دونه في العقل والعالم الجاهل، وهذا في غالب أحوال أهل الدنيا، وبه تتم مصالحهم وينتظم معاشهم ويصل كل واحد منهم إلى مطلوبه، فإن كل صناعة دنيوية يحسنها قوم دون آخرين، فجعل البعض محتاجا إلى البعض لتحصل المواساة بينهم في متاع الدنيا، ويحتاج هذا إلى هذا، ويصنع هذا لهذا، ويعطي هذا هذا. قال السدي وابن زيد: سخرنا خولنا وخدما يسخر الأغنياء الفقراء فيكون بعضهم سببا لمعاش بعض. وقال قتادة والضحاك: ليملك بعضهم بعضا، وقيل هو من السخرية التي بمعنى الاستهزاء، وهذا وإن كان مطابقا للمعنى اللغوي، ولكنه بعيد من معنى القرآن ومناف لما هو مقصود السياق (ورحمة ربك خير مما يجمعون) يعني بالرحمة ما أعده الله لعباده الصالحين في الدار الآخرة، وقيل هي النبوة لأنها المراد بالرحمة المتقدمة في قوله - أهم يقسمون رحمة ربك - ولا مانع من أن يراد كل ما يطلق عليه اسم الرحمة إما شمولا أو بدلا، ومعنى " مما يجمعون " ما يجمعونه من الأموال وسائر متاع الدنيا. ثم بين سبحانه حقارة الدنيا عنده فقال (ولولا أن يكون الناس أمة واحدة) أي لولا أن يجتمعوا على الكفر ميلا إلى الدنيا وزخرفها (لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفا من فضة) جمع الضمير في بيوتهم وأفرده في يكفر باعتبار معنى من ولفظها، ولبيوتهم بدل اشتمال من الموصول والسقف جمع سقف. قرأ الجمهور بضم السين والقاف كرهن ورهن. قال أبو عبيدة: ولا ثالث لهما. وقال الفراء: وهو جمع سقيف نحو كثيب وكثب ورغيف ورغف، وقيل هو جمع سقوف فيكون جمعا للجمع. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بفتح السين وإسكان القاف على الإفراد ومعناه الجمع لكونه للجنس. قال الحسن: معنى الآية:
لولا أن يكفر الناس جميعا بسبب ميلهم إلى الدنيا وتركهم الآخرة لأعطيناهم في الدنيا ما وصفناه لهوان الدنيا عند الله وقال بهذا أكثر المفسرين. وقال ابن زيد: لولا أن يكون الناس أمة واحدة في طلب الدنيا واختيارهم لها على الآخرة. وقال الكسائي: المعنى لولا أن يكون في الكفار غني وفقير، وفي المسلمين مثل ذلك لأعطينا الكفار من الدنيا هذا لهوانها (ومعارج عليها يظهرون) المعارج: الدرج جمع معراج، والمعراج السلم. قال الأخفش: إن شئت جعلت الواحدة معرج ومعرج مثل: مرقاة ومرقاة، والمعنى: فجعلنا لهم معارج من فضة عليها يظهرون:
أي على المعارج يرتقون ويصعدون، يقال ظهرت على البيت: أي علوت سطحه، ومنه قول النابغة:
بلغنا السماء مجدا وفخرا وسؤددا * وإنا لنرجو فوق ذلك مظهرا أي مصعدا (ولبيوتهم أبوابا وسررا) أي وجعلنا لبيوتهم أبوابا من فضة وسررا من فضة (عليها يتكئون) أي على السرر وهو جمع سرير، وقيل جمع أسرة فيكون جمعا للجمع، والاتكاء والتوكؤ: التحامل على الشئ،