الحاكم إجراء الحد على المرتكب الواقعي لما فيه الحد، لأن تلك الأدلة منصبة على عنوان فاعل الفعل كالسارق والزاني، فمتى ما علم الحاكم بتحقق العنوان فقد علم بضرورة إجراء الحد ولو لم تقم بينة، إذن فللحاكم أن يعمل بعلمه في باب الحدود، ثم نتعدى إلى غير باب الحدود بالأولوية.
أقول: الحد الراجع إلى حق الله تعالى كما في حد الزنا لا يمكن التعدي منه إلى حقوق الناس، إذ من المحتمل كون علم القاضي حجة فيه وغير حجة في حقوق الناس، كما يحتمل العكس أيضا. أما بناء على كون حد السرقة أو حد القذف مثلا من حقوق الناس فيمكن التعدي من ذلك إلى غير باب الحدود.
الدليل السابع - أن يقال: إن الأدلة التي جعلت البينات والأيمان ونحوهما مقياسا للقضاء مقتضى إطلاقها كون واقع تلك الأمور مقاييس تامة، أي أن القاضي سيقضي وفق علمه بها ولو أنكرها أحد الخصمين، ولا يحتمل العرف الفرق بين علم القاضي بالبينة أو اليمين أو علمه بالواقع رأسا، فإذا كان علمه بمثل البينة أو اليمين حجة، ولا يطالب بالإثبات، كذلك علمه بالواقع يكون حجة بالدلالة الالتزامية العرفية لدليل حجية علمه بالبينة واليمين.
إلا أن هذه الدلالة الالتزامية العرفية التي يمكن دعواها في المقام ليست بذاك المستوى من الوضوح، إذ لا بد - في نهاية الأمر - من رجوع إلى علم القاضي ولو في خصوص الكشف عن تحقق مقاييس القضاء كي تستقر الأمور، فلعله اقتصرت الشريعة في مقام الاستناد إلى علم القاضي على أقل مقدار ممكن في نظرها، وهو الاستناد إلى علم القاضي بتحقق المقاييس والتي تقل نسبة وقوع الخلاف فيه بالقياس إلى نفس الواقع الذي كان المفروض عادة الخلاف بين الخصمين بلحاظه، فلعله لم تعط للقاضي صلاحية الاستناد إلى علمه في الدائرة الواسعة، وأعطتها في الدائرة الضيقة كي تنتظم الأمور وتستقر.