تاسعا هل كان النبي يجهل ما يشتمل عليه القرآن حتى يرشده إليه من حال دون الكتاب وهل كان أعلم بذلك من النبي.
عاشرا الناس اختلفوا في أمر الخلافة بعد النبي ص فجملة من المهاجرين قدموا أبا بكر وقال بعض الأنصار منا أمير ومنكم أمير وقالت الأنصار أو بعض الأنصار لا نريد إلا عليا رواه الطبري ومعهم جميع بني هاشم فهل حكم بينهم القرآن الذي فيه تبيان كل شئ، فجعل ذلك من دقيق نظر من حال دون الكتاب لم يستند إلى نظر دقيق.
حادي عشر قوله ولئلا ينسد باب الاجتهاد والاستنباط طريف جدا ففتح باب للاجتهاد يوقع في الخطا والضلال وفي غير ما حكم به الله تعالى مع إمكان سده وإيصال الخلق إلى احكام الله الواقعية يعد سفها ومنافيا لحكمته تعالى والاجتهاد لا يصار إليه إلا عند الاضطرار.
ثاني عشر قوله في تركه الإنكار عليه دليل على استصواب رأيه، طريف أيضا، فأي انكار أكثر من قوله أ وبعد ما ذا؟ كما مر في رواية ابن سعد عن ابن جبير عن ابن عباس وقوله أ بعد الذي قلتم كما مر في رواية المفيد، وقوله هن خير منكم بعد ما قلن ائتوا رسول الله بحاجته وقال لهن عمر ما قال فإنه يدل على تصويب رأيهن دون رأيه.
ثالث عشر قوله وكأنهم فهموا من قرينة أن أمره لم يكن للوجوب فلذا اختلفوا بحسب اجتهادهم، تأويل غريب، فالقرينة لو كانت لنقلت لتوفر الحاجة ولو كانت لما اختلفوا والاجتهاد لا يكون في مقابل النص بل القرينة على أنه للوجوب أظهر من أن تخفى وأي قرينة أوضح وأصرح وأدل وأظهر من قوله لن تضلوا بعده وكيف يتوهم متوهم أن هذا الأمر ليس للوجوب وهو أمر من سيد الكائنات ورسول رب السماوات الرؤوف الرحيم بالمؤمنين في آخر ساعة من حياته لأمة يخاف عليها الضلال من بعده فيريد أن يكتب لها كتابا لا تضل بعده أبدا فأي شئ أوجب وأهم من كتاب يحفظ الأمة من الضلال بعد النبي ص أبدا إلى آخر الدهر وهل يسوع في العقول أن يترك هذا الأمر ولكن الواقع أن القرينة الصريحة كانت موجودة على أنه يريد أن يؤكد ما سبق منه في يوم الغدير وأنهم فهموا منه أن الكتاب يتعلق بالخلافة والإمامة بعده لأنه لا شئ أهم منها في تلك الحال وقد فهموا منه مما تقدم به يوم الغدير ويوم جمع بني هاشم في مكة في أول البعثة ومن أمور كثيرة وعلموا علما لا يداخله ريب أنه لن يعدو بها عليا فهذا الذي دعا إلى أن يقول بعضهم غلب عليه المرض أو يهجر حسبنا كتاب ربنا وهل يمكن أن يخالف كتاب رسول الله كتاب ربهم.
رابع عشر يرد كل هذه التحملات ويبطلها إبطالا صريحا ما مر ويأتي عن ابن عباس من أنه كان يبكي بكاء شديدا إذا ذكر تلك الحادثة حتى تسيل دموعه على خديه كأنها نظام اللؤلؤ ويتالم تألما شديدا كما يدل عليه قوله يوم الخميس وما يوم الخميس، وقوله إن الرزية كل الرزية ما حال بين رسول الله ص وبين أن يكتب لهم ذلك الكتاب الخ. ولا شك أن ابن عباس فهم أن الكتاب لتأكيد ما جرى يوم الغدير فلذلك كان يبكي بكاء شديدا عندما يتذكر الحيلولة دون الكتاب ولو كان غير ذلك لما كان لبكائه موجب فالدين كامل ولم يفرط في القرآن من شئ والخليفة موجود فلما ذا يبكي ابن عباس ويشتد بكاؤه، وتمحل القسطلاني للاعتذار عما صدر من ابن عباس بما يأتي في شرح الرواية الثالثة وسنبين فساده.
وقال القسطلاني (1) في شرح الرواية الثالثة: واستنبط منه أن الكتابة ليست بواجبة وأنه لم يتركها ص لأجل اختلافهم لقوله تعالى: بلغ ما أنزل إليك، كما لم يترك التبليغ لمخالفة من خالفه ومعاداة من عاداه وكما أمر في تلك الحالة باخراج اليهود من جزيرة العرب وغير ذلك. قال ولا يعارض ذلك أن ابن عباس كان يقول: إن الرزية كل الرزية الخ لأن عمر كان أفقه من ابن عباس قطعا وذلك لأنه إن كان من الكتاب بيان احكام الدين ورفع الخلاف فقد علم عمر حصول ذلك من قوله اليوم أكملت لكم دينكم وذكر نحوا مما مر عنه في شرح الرواية الأولى.
ونقول: أولا استنباط أن الكتابة ليست بواجبة من ترك النبي لها لأجل اختلافهم، في غير محله بل الظاهر أن تركها لما ظهر له من عدم جدواها بدليل قوله في الرواية الرابعة: أ وبعد ما ذا؟ وفي رواية المفيد أ بعد الذي قلتم، كما مر، فاكتفى بالتبليغ الشفوي للأمر الذي ترك عمدا أو قيل عنه أنه نسي فان الواجب التبليغ كتابة أو باللسان والأول أبلغ فلما منع منه اكتفى بالثاني وكيف كان فليس بيدنا ما يوجب القطع بأنه لم يبلغ لسانا.
ثانيا التبليغ كان قد حصل منه يوم الغدير وغيره كما مر وظاهر الحال أن الكتابة كان يراد بها تأكيد ما سبق منه يوم الغدير وغيره وتأكيد إقامة الحجة فلما سمع منهم نسبته إلى الهجر وإلى غلبة المرض عليه ورأى لغطهم وصياحهم وخصامهم عنده الذي يراد به تشويش الأمر عليه ليمتنع من الكتاب أعرض عنهم وطردهم من عنده وتبرم بهم وقال قوموا عني واكتفى بالتبليغ السابق وبقوله أوصيكم باهل بيتي خيرا وبالشئ الذي زعم الزاعم أنه نسي.
ثالثا قد عرفت في الأمر الثاني عشر في الرد على تفسيره الرواية الأولى أن حمل الأمر على الاستحباب فاسد وأنه لا يمكن أن يكون شئ أوجب من كتابة ما يحفظ الأمة من الضلال إلى آخر الدهر.
رابعا الكتابة إن لم تكن واجبة فلا أقل من رجحانها واستحبابها كما يدل عليه الأمر بها، والتبليغ كما يجب في الواجبات يجب في المستحبات وليس لأحد أن يمنع منه في واجب أو مستحب لقوله تعالى فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما والاعتذار عنه بإرادة رفع المشقة عن النبي ص قد علم فساده مما مر ومن تبليغه الأمور الثلاثة التي نسوا أو تناسوا ثالثها.
خامسا استدلاله على كون عمر أفقه من ابن عباس بمنعه النبي من الكتابة إشفاقا عليه من المشقة ينافيه أن النبي كان أفقه منهما قطعا وأعلم بالمصلحة فمنعه من أمر راجح يريد فعله ليس فيه شئ من الأفقهية وإلا لكان أفقه من النبي أيضا.
سادسا ابن عباس كان يقول أو يقال عنه إن عنده ثلثي علم رسول الله ص وهو تلميذ علي بن أبي طالب وخريجه الذي كان يقول فيه عمر: قضية ولا أبو الحسن لها، لا بقيت لمعضلة ليس لها أبو الحسن، لولا علي لهلك عمر، فدعوى القطع بان عمر أفقه من ابن عباس مجازفة.
وقول زينب أم المؤمنين في الرواية العاشرة ألا تسمعون النبي يعهد