بدلا من الحق (ويعلمون أن الله هو الحق المبين) أي ويعلمون عند معاينتهم لذلك ووقوعه على ما نطق به الكتاب العزيز أن الله هو الحق الثابت في ذاته وصفاته وأفعاله، المبين المظهر للأشياء كما هي في أنفسها، وإنما سمي سبحانه الحق لأن عبادته هي الحق دون عبادة غيره. وقيل سمي بالحق: أي الموجود لأن نقيضه الباطل وهو المعدوم.
ثم ختم سبحانه الآيات الواردة في أهل الإفك بكلمة جامعة فقال (الخبيثات للخبيثين) أي الخبيثات من النساء للخبيثين من الرجال: أي مختصة بهم لا تتجاوزهم، وكذا الخبيثون مختصون بالخبيثات لا يتجاوزونهن، وهكذا قوله (والطيبات للطيبين والطيبون للطيبات) قال مجاهد وسعيد بن جبير وعطاء وأكثر المفسرين: المعنى الكلمات الخبيثات من القول للخبيثين من الرجال والخبيثون من الرجال للخبيثات من الكلمات، والكلمات الطيبات من القول للطيبين من الناس، والطيبون من الناس للطيبات من الكلمات. قال النحاس: وهذا أحسن ما قيل. قال الزجاج: ومعناه لا يتكلم بالخبيثات إلا الخبيث من الرجال والنساء، ولا يتكلم بالطيبات إلا الطيب من الرجال والنساء، وهذا ذم للذين قذفوا عائشة بالخبث ومدح للذين برءوها. وقيل إن هذه الآية مبنية على قوله " الزاني لا ينكح إلا زانية " فالخبيثات الزواني، والطيبات العفائف، وكذا الخبيثون والطيبون، والإشارة بقوله (أولئك مبرؤن مما يقولون) إلى الطيبين والطيبات: أي هم مبرؤن مما يقوله الخبيثون والخبيثات، وقيل الإشارة إلى أزواج النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وقيل إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعائشة وصفوان بن المعطل، وقيل عائشة وصفوان فقط. قال الفراء: وجمع كما قال " فإن كان له إخوة " والمراد إخوان (لهم مغفرة) أي هؤلاء المبرؤن لهم مغفرة عظيمة لما لا يخلو عنه البشر من الذنوب (ورزق كريم) وهو رزق الجنة.
وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله (ولا يأتل) الآية، يقول: لا يقسموا أن لا ينفعوا إلا أحدا. وأخرج ابن المنذر عن عائشة قالت: كان مسطح بن أثاثة ممن تولى كبره من أهل الإفك، وكان قريبا لأبي بكر وكان في عياله، فحلف أبو بكر أن لا ينيله خيرا أبدا، فأنزل الله (ولا يأتل أولوا الفضل منكم والسعة) الآية، قالت: فأعاده أبو بكر إلى عياله وقال: لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيرا منها إلا تحللتها وأتيت الذي هو خير. وقد روى هذا من طرق عن جماعة من التابعين. وأخرج ابن جرير وابن مردويه عن ابن عباس في الآية قال: كان ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد رموا فيه عائشة بالقبيح وأفشوا ذلك وتكلموا فيها، فأقسم ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم منهم أبو بكر ان لا يتصدقوا على رجل تكلم بشئ من هذا ولا يصلوه، فقال: لا يقسم أولوا الفضل منكم والسعة أن يصلوا أرحامهم وأن يعطوهم من أموالهم كالذي كانوا يفعلون قبل ذلك، فأمر الله أن يغفر لهم وأن يعفى عنهم. وأخرج ابن أبي حاتم والحاكم وصححه وابن مردويه عنه في قوله (إن الذين يرمون المحصنات) الآية، قال: نزلت في عائشة خاصة. وأخرج سعيد بن منصور وابن جرير والطبراني وابن مردويه عنه أيضا في الآية قال: هذه في عائشة وأزواج النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ولم يجعل لمن فعل ذلك توبة، وجعل لمن رمى امرأة من المؤمنات من غير أزواج النبي صلى الله عليه وآله وسلم التوبة، ثم قرأ (والذين يرمون المحصنات) إلى قوله (إلا الذين تابوا). وأخرج أبو يعلى وابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه عن أبي سعيد أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: " إذا كان يوم القيامة عرف الكافر بعمله فجحد وخاصم، فيقال: هؤلاء جيرانك يشهدون عليك فيقول: كذبوا، فيقال: أهلك وعشيرتك، فيقول: كذبوا، فيقال: احلفوا فيحلفون، ثم يصمتهم الله وتشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم، ثم يدخلهم النار " وقد روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم من طريق جماعة من الصحابة ما يتضمن شهادة