النبي صلى الله عليه وآله وسلم فذكر ذلك وتلا القرآن، فلما نزل من المنبر أمر بالرجلين والمرأة فضربوا حدهم، وسماهم: حسان، ومسطح بن أثاثة، وحمنة بنت جحش.
واختلفوا في وجه تركه صلى الله عليه وآله وسلم لجلد عبد الله بن أبي، فقيل لتوفير العذاب العظيم له في الآخرة، وحد من عداه ليكون ذلك تكفيرا لذنبهم كما ثبت عنه صلى الله عليه وآله وسلم في الحدود أنه قال " إنها كفارة لمن أقيمت عليه " وقيل ترك حده تألفا لقومه واحتراما لابنه، فإنه كان من صالحي المؤمنين وإطفاء لنائرة الفتنة، فقد كانت ظهرت مباديها من سعد بن عبادة ومن معه كما في صحيح مسلم. ثم صرف سبحانه الخطاب عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ومن معه إلى المؤمنين بطريق الالتفات فقال (لولا إذ سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيرا) لولا هذه هي التحضيضية تأكيدا للتوبيخ والتقريع ومبالغة في معاتبتهم: أي كان ينبغي للمؤمنين حين سمعوا مقالة أهل الإفك أن يقيسوا ذلك على أنفسهم، فإن كان ذلك يبعد فيهم، فهو في أم المؤمنين أبعد. قال الحسن: معنى بأنفسهم بأهل دينهم، لأن المؤمنين كنفس واحدة ألا ترى إلى قوله " ولا تقتلوا أنفسكم " قال الزجاج: ولذلك يقال للقوم الذين يقتل بعضهم بعضا إنهم يقتلون أنفسهم. قال المبرد ومثله قوله سبحانه " فاقتلوا أنفسكم " قال النحاس: بأنفسهم بإخوانهم، فأوجب الله سبحانه على المسلمين إذا سمعوا رجلا يقذف أحدا ويذكره بقبيح لا يعرفونه به أن ينكروا عليه ويكذبوه. قال العلماء: إن في الآية دليلا على أن درجة الإيمان والعفاف لا يزيلها الخبر المحتمل وإن شاع (هذا إفك مبين) أي قال المؤمنون عند سماع الإفك هذا إفك ظاهر مكشوف، وجملة (لولا جاءوا عليه بأربعة شهداء) من تمام ما يقوله المؤمنون: أي وقالوا هلا جاء الخائضون بأربعة شهداء) يشهدون على ما قالوا (فإذ لم يأتوا بالشهداء فأولئك) أي الخائضون في الإفك (عند الله هم الكاذبون) أي في حكم الله تعالى هم الكاذبون الكاملون في الكذب (ولولا فضل الله عليكم ورحمته في الدنيا والآخرة) هذا خطاب للسامعين، وفيه زجر عظيم (ولولا) هذه هي لامتناع الشئ لوجود غيره (لمسكم فيما أفضتم فيه) أي بسبب ما خضتم فيه من حديث الإفك، يقال أفاض في الحديث، واندفع وخاض. والمعنى: لولا أني قضيت عليكم بالفضل في الدنيا بالنعم التي من جملتها الإمهال والرحمة في الآخرة بالعفو، لعاجلتكم بالعقاب على ما خضتم فيه من حديث الإفك. وقيل المعنى: لولا فضل الله عليكم لمسكم العذاب في الدنيا والآخرة معا، ولكن برحمته ستر عليكم في الدنيا ويرحم في الآخرة من أتاه تائبا (إذ تلقونه بألسنتكم) الظرف منصوب بمسكم أو بأفضتم، قرأ الجمهور " إذ تلقونه " من التلقي، والأصل تتلقونه فحذف إحدى التاءين. قال مقاتل ومجاهد: المعنى يرويه بعضكم عن بعض. قال الكلبي: وذلك أن الرجل منهم يلقى الرجل فيقول بلغني كذا وكذا ويتلقونه تلقيا. قال الزجاج:
معناه يلقيه بعضكم إلى بعض. وقرأ محمد بن السميفع بضم التاء وسكون اللام وضم القاف، من الإلقاء، ومعنى هذه القراءة واضح. وقرأ أبي مسعود " تتلقونه " من التلقي، وهي كقراءة الجمهور. وقرأ ابن عباس وعائشة وعيسى بن عمر ويحيى بن يعمر وزيد بن علي بفتح التاء وكسر اللام وضم القاف وهذه القراءة مأخوذة من قول العرب ولق يلق ولقا: إذا كذب. قال ابن سيده: جاءوا بالمتعدي شاهدا على غير المتعدي. قال ابن عطية:
وعندي أنه أراد يلقون فيه فحذف حرف الجر فاتصل الضمير. قال الخليل وأبو عمرو: أصل الولق الإسراع، يقال جاءت الإبل تلق: أي تسرع، ومنه قول الشاعر:
لما رأوا جيشا عليهم قد طرق * جاءوا بأسراب من الشام ولق وقال الآخر: جاءت به عيسى من الشام تلق * قال أبو البقاء: أي يسرعون فيه قال ابن جرير: