وهذه اللفظة أي تلقونه على القراءة الأخيرة مأخوذة من الولق، وهو الإسراع بالشيء بعد الشئ كعدد في إثر عدد، وكلام في إثر كلام، وقرأ زيد بن أسلم وأبو جعفر " تألقونه " بفتح التاء وهمزة ساكنة ولام مكسورة وقاف مضمومة من الألق وهو الكذب، وقرأ يعقوب " تيلقونه " بكسر التاء من فوق بعدها ياء تحتية ساكنة ولام مفتوحة وقاف مضمومة، وهو مضارع ولق بكسر اللام، ومعنى (وتقولون بأفواهكم ما ليس لكم به علم) أن قولهم هذا مختص بالأفواه من غير أن يكون واقعا في الخارج معتقدا في القلوب، وقيل إن ذكر الأفواه للتأكيد كما في قوله " يطير بجناحيه " ونحوه، والضمير في تحسبونه راجع إلى الحديث الذي وقع الخوض فيه والإذاعة له (وتحسبونه هينا) أي شيئا يسيرا لا يلحقكم فيه إثم، وجملة (وهو عند الله عظيم) في محل نصب على الحال: أي عظيم ذنبه وعقابه (ولولا إذ سمعتموه قلتم ما يكون لنا أن نتكلم بهذا) هذا عتاب لجميع المؤمنين: أي هلا إذ سمعتم حديث الإفك قلتم تكذيبا للخائضين فيه المفترين له ما ينبغي لنا ولا يمكننا أن نتكلم بهذا الحديث ولا يصدر ذلك منا بوجه من الوجوه، ومعنى قوله (سبحانك هذا بهتان عظيم) التعجب من أولئك الذين جاءوا بالإفك، وأصله التنزيه لله سبحانه، ثم كثر حتى استعمل في كل متعجب منه، والبهتان هو أن يقال في الإنسان ما ليس فيه: أي هذا كذب عظيم لكونه قيل في أم المؤمنين رضي الله عنها، وصدوره مستحيل شرعا من مثلها. ثم وعظ سبحانه الذين خاضوا في الإفك فقال (يعظكم الله أن تعودوا لمثله أبدا) أي ينصحكم الله، أو يحرم عليكم، أو ينهاكم كراهة أن تعودوا، أو من أن تعودوا، أو في أن تعودوا لمثل هذا القذف مدة حياتكم (إن كنتم مؤمنين) فإن الإيمان يقتضي عدم الوقوع في مثله ما دمتم، وفيه تهييج عظيم وتقريع بالغ (ويبين الله لكم الآيات) في الأمر والنهى لتعملوا بذلك وتتأدبوا بآداب الله وتنزجروا عن الوقوع في محارمه (والله عليم) بما تبدونه وتخفونه (حكيم) في تدبيراته لخلقه.
ثم هدد سبحانه القاذفين ومن أراد أن يتسامع الناس بعيوب المؤمنين وذنوبهم فقال (إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا) أي يحبون أن تفشو الفاحشة وتنتشر، ومن قولهم شاع الشئ يشيع شيوعا وشيعا وشيعانا:
إذا ظهر وانتشر، والمراد بالذين آمنوا المحصنون العفيفون، أو كل من اتصف بصفة الإيمان، والفاحشة هي فاحشة الزنا أو القول السيء (لهم عذاب أليم في الدنيا) بإقامة الحد عليهم (والآخرة) بعذاب النار (والله يعلم) جميع المعلومات (وأنتم لا تعلمون) إلا ما علمكم به وكشفه لكم ومن جملة ما يعلمه الله عظم ذنب القذف، وعقوبة فاعله (ولولا فضل الله عليكم ورحمته) هو تكرير لما تقدم تذكيرا للمنة منه سبحانه على عبادة بترك المعاجلة لهم (وأن الله رؤوف رحيم) ومن رأفته بعباده لا يعاجلهم بذنوبهم، ومن رحمته لهم أن يتقدم إليهم بمثل هذا الإعذار والإنذار وجملة: وأن الله رؤوف رحيم معطوفة على فضل الله، وجواب لولا محذوف لدلالة ما قبله عليه: أي لعاجلكم بالعقوبة (يا أيها الذين آمنوا لا تتبعوا خطوات الشيطان) الخطوات جمع خطوة، وهي ما بين القدمين، والخطوة بالفتح المصدر: أي لا تتبعوا مسالك الشيطان ومذاهبه ولا تسلكوا طرائقه التي يدعوكم إليها. قرأ الجمهور " خطوات " بضم الخاء والطاء، وقرأ عاصم والأعمش بضم الخاء وإسكان الطاء (ومن يتبع خطوات الشيطان فإنه يأمر بالفحشاء والمنكر) قيل جزاء الشرط محذوف أقيم مقامه ما هو علة له، كأنه قيل: فقد ارتكب الفحشاء والمنكر لأن دأبه أن يستمر آمرا لغيره بهما، والفحشاء ما أفرط قبحه، والمنكر ما ينكره الشرع، وضمير إنه للشيطان، وقيل للشأن، والأولى أن يكون عائدا إلى من يتبع خطوات الشيطان، لأن من اتبع الشيطان صار مقتديا به في الأمر بالفحشاء والمنكر (ولولا فضل الله عليكم ورحمته) قد تقدم بيانه وجواب لولا هو قوله (ما زكى منكم من أحد أبدا) أي لولا التفضل والرحمة من الله ما طهر أحد منكم نفسه من دنسها ما دام حيا. قرأ الجمهور " زكى " بالتخفيف،