(وليعفو) عن ذنبهم الذي أذنبوه عليهم وجنايتهم التي اقترفوها، من عفا الربع: أي درس، والمراد محو الذنب حتى يعفو كما يعفو أثر الربع (وليصفحوا) بالإغضاء عن الجاني والإغماض عن جنايته، وقرئ بالفوقية في الفعلين جميعا. ثم ذكر سبحانه ترغيبا عظيما لمن عفا وصفح فقال (ألا تحبون أن يغفر الله لكم) بسبب عفوكم وصفحكم عن الفاعلين للإساءة عليكم (والله غفور رحيم) أي كثير المغفرة والرحمة لعباده مع كثرة ذنوبهم، فكيف لا يقتدي العباد بربهم في العفو والصفح عن المسيئين إليهم (إن الذين يرمون المحصنات) قد مر تفسير المحصنات وذكرنا الإجماع على أن حكم المحصنين من الرجال حكم المحصنات من النساء في حد القذف.
وقد اختلف في هذه الآية هل هي خاصة أو عامة؟ فقال سعيد بن جبير: هي خاصة فيمن رمى عائشة رضي الله عنها. وقال مقاتل: هي خاصة بعبد الله بن أبي رأس المنافقين. وقال الضحاك والكلبي: هذه الآية هي في عائشة وسائر أزواج النبي صلى الله عليه وآله وسلم دون سائر المؤمنين والمؤمنات، فمن قذف إحدى أزواج النبي صلى الله عليه وآله سلم فهو من أهل هذه الآية. قال الضحاك: ومن أحكام هذه الآية أنه لا توبة لمن رمى إحدى أزواجه صلى الله عليه وآله وسلم، ومن قذف غيرهن فقد جعل الله له التوبة كما تقدم في قوله (إلا الذين تابوا) وقيل إن هذه الآية خاصة بمن أصر على القذف ولم يتب، وقيل إنها تعم كل قاذف ومقذوف من المحصنات والمحصنين، واختاره النحاس، وهو الموافق لما قرره أهل الأصول من أن الاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب. وقيل إنها خاصة بمشركي مكة، لأنهم كانوا يقولون للمرأة إذا خرجت مهاجرة إنما خرجت خرجت لتفجر. قال أهل العلم: إن كان المراد بهذه الآية المؤمنون من القذفة، فالمراد باللعنة الإبعاد وضرب الحد وهجر سائر المؤمنين لهم وزوالهم عن رتبة العدالة والبعد عن الثناء الحسن على ألسنة المؤمنين، وإن كان المراد بها من قذف عائشة خاصة كانت هذه الأمور في جانب عبد الله بن أبي رأس المنافقين، وإن كانت في مشركي مكة فإنهم ملعونون (في الدنيا والآخرة ولهم عذاب عظيم) والمراد بالغافلات اللاتي غفلن عن الفاحشة بحيث لا تخطر ببالهن ولا يفطن لها، وفي ذلك من الدلالة على كمال النزاهة وطهارة الجيب ما لم يكن في المحصنات، وقيل هن السليمات الصدور النقيات القلوب (يوم تشهد عليهم ألسنتهم) هذه الجملة مقررة لما قبلها مبينة لوقت حلول ذلك العذاب بهم وتعيين اليوم لزيادة التهويل بما فيه من العذاب الذي لا يحيط به وصف. وقرأ الجمهور " يوم تشهد " بالفوقية، واختار هذه القراءة أبو حاتم، وقرأ الأعمش ويحيى بن وثاب وحمزة والكسائي وخلف بالتحتية، واختار هذه القراءة أبو عبيد، لأن الجار والمجرور قد حال بين الاسم والفعل. والمعنى: تشهد ألسنة بعضهم على بعض في ذلك اليوم، وقيل تشهد عليهم ألسنتهم في ذلك اليوم بما تكلموا به (وأيديهم وأرجلهم) بما عملوا بها في الدنيا، وإن الله سبحانه ينطقها بالشهادة عليهم، والمشهود محذوف وهو ذنوبهم التي اقترفوها: أي تشهد هذه عليهم بذنوبهم التي اقترفوها ومعاصيهم التي عملوها (يومئذ يوفيهم الله دينهم الحق) أي يوم تشهد عليهم جوارحهم بأعمالهم القبيحة يعطيهم الله جزاءهم عليها موفرا، فالمراد بالدين هاهنا الجزاء، وبالحق الثابت الذي لا شك في ثبوته. قرأ زيد بن علي " يوفيهم " مخففا من أوفى، وقرأ من عداه بالتشديد من وفى. وقرأ أبو حيوة ومجاهد " الحق " بالرفع على أنه نعت لله، وروى ذلك عن ابن مسعود. وقرأ الباقون بالنصب على أنه نعت لدينهم. قال أبو عبيدة: ولولا كراهة خلاف الناس لكان الوجه الرفع ليكون نعتا لله عز وجل ولتكون موافقة لقراءة أبي، وذلك أن جرير ابن حازم قال:
رأيت في مصحف أبي " يوفيهم الله الحق دينهم ". قال النحاس: وهذا الكلام من أبي عبيدة غير مرضي، لأنه احتج بما هو مخالف للسواد الأعظم، ولا حجة أيضا فيه، لأنه لو صح أنه في مصحف أبي كذلك جاز أن يكون دينهم