استووا، فبقينا متحيرين ولم ندر ما قال، فقال لنا أعرابي إلى جنبه: أمركم أن ترتفعوا. قال الخليل: هو من قول الله - ثم استوى إلى السماء - قال: فصعدنا إليه فقال: هل لكم في خبز فطير ولبن هجير؟ فقلنا الساعة فارقناه، فقال: سلاما، فلم ندر ما قال، فقال الأعرابي: إنه سالمكم متاركة لا خير فيها ولا شر. قال الخليل: هو من قول الله (وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما. والذين يبيتون لربهم سجدا وقياما) البيتوتة: هي أن يدركك الليل نمت أو لم تنم. قال الزجاج: من أدركه الليل فقد بات، نام أو لم ينم، كما يقال: بات فلان قلقا، والمعنى: يبيتون لربهم سجدا على وجوههم، وقياما على أقدامهم، ومنه قول امرئ القيس:
فبتنا قياما عند رأس جوادنا * يزاولنا عن نفسه ونزاوله (والذين يقولون ربنا اصرف عنا عذاب جهنم إن عذابها كان غراما) أي هم مع طاعتهم مشفقون وجلون خائفون من عذابه، والغرام اللازم الدائم، ومنه سمي الغريم لملازمته، ويقال: فلان مغرم بكذا: أي ملازم له مولع به، هذا معناه في كلام العرب، كما ذكره ابن الأعرابي وابن عرفة وغيرهما، ومنه قول الأعشى:
إن يعاقب يكن غراما * وإن يعط جزيلا فإنه لا يبالي وقال الزجاج: الغرام أشد العذاب. وقال أبو عبيدة: هو الهلاك. وقال ابن زيد: الشر، وجملة (إنها ساءت مستقرا ومقاما) تعليل لما قبلها، والمخصوص محذوف: أي هي، وانتصاب مستقرا على الحال أو التمييز، وكذا مقاما، قيل هما مترادفان، وإنما عطف أحدهما على الآخر لاختلاف لفظيهما، وقيل بل هما مختلفان معنى:
فالمستقر للعصاة فإنهم يخرجون، والمقام للكفار فإنهم يخلدون، وساءت من أفعال الذم كبئست، ويجوز أن يكون هذا من كلام الله سبحانه، ويجوز أن يكون حكاية لكلامهم. ثم وصفهم سبحانه بالتوسط في الإنفاق فقال (والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا) قرأ حمزة والكسائي والأعمش وعاصم ويحيى بن وثاب " يقتروا " بفتح التحتية وضم الفوقية، من قتر يقتر كقعد يقعد، وقرأ أبو عمرو وابن كثير بفتح التحتية وكسر التاء الفوقية، وهي لغة معروفة حسنة، وقرأ أهل المدينة وابن عامر وأبو بكر عن عاصم بضم التحتية وكسر الفوقية. قال أبو عبيدة: يقال قتر الرجل على عياله يقتر ويقتر قترا، وأقتر يقتر إقتارا، ومعنى الجميع: التضييق في الإنفاق.
قال النحاس: ومن أحسن ما قبل في معنى الآية: أن من أنفق في غير طاعة الله فهو الإسراف، ومن أمسك عن طاعة الله فهو الإقتار، ومن أنفق في طاعة الله فهو القوام. وقال إبراهيم النخعي: هو الذي لا يجيع ولا يعرى، ولا ينفق نفقة، يقول الناس قد أسرف. وقال يزيد بن أبي حبيب: أولئك أصحاب محمد كانوا لا يأكلون طعاما للتنعم واللذة ولا يلبسون ثوبا للجمال، ولكن كانوا يريدون من الطعام ما يسد عنهم الجوع ويقويهم على عبادة الله، ومن اللباس ما يستر عوراتهم ويقيهم الحر والبرد. وقال أبو عبيدة: لم يزيدوا على المعروف، ولم يبخلوا كقوله - ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط - قرأ حسان بن عبد الرحمن (وكان بين ذلك قواما) بكسر القاف، وقرأ الباقون بفتحها، فقيل هما بمعنى، وقيل القوام بالكسر: ما يدوم عليه الشئ ويستقر، وبالفتح: العدل والاستقامة، قاله ثعلب. وقيل بالفتح: العدل بين الشيئين، وبالكسر: ما يقام به الشئ لا يفضل عنه ولا ينقص. وقيل بالكسر: السداد والمبلغ، واسم كان مقدر فيها: أي كان إنفاقهم بين ذلك قواما وخبرها قواما، قال الفراء. وروي عن الفراء قول آخر، وهو أن اسم كان بين ذلك، وتبنى بين على الفتح لأنها من الظروف المفتوحة. وقال النحاس: ما أدرى ما وجه هذا، لأن بين إذا كانت في موضع رفع رفعت.