ما يدل على تقييد الآية الأولى بالتوبة لا بمطابقة ولا تضمن ولا التزام، بل غاية ما فيها أنه بشرهم بتلك البشارة العظمى، ثم دعاهم إلى الخير وخوفهم من الشر على أنه يمكن أن يقال: إن هذه الجملة مستأنفة خطابا للكفار الذين لم يسلموا بدليل قوله (وأسلموا له) جاء بها لتحذير الكفار وإنذارهم بعد ترغيب المسلمين بالآية الأولى وتبشيرهم، وهذا وإن كان بعيدا ولكنه يمكن أن يقال به. والمعنى على ما هو الظاهر: أن الله جمع لعباده بين التبشير العظيم، والأمر بالإنابة إليه والإخلاص له والاستسلام لأمره والخضوع لحكمه، وقوله (من قبل أن يأتيكم العذاب) أي عذاب الدنيا كما يفيده قوله (من قبل أن يأتيكم) فليس في ذلك ما يدل على ما زعمه الزاعمون وتمسك به القانطون المقنطون والحمد لله لله رب العالمين (واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم) يعني القرآن، يقول:
أحلوا حلاله وحرموا حرامه، والقرآن كله حسن. قال الحسن: التزموا طاعته واجتنبوا معاصيه. وقال السدي:
الأحسن ما أمر الله به في كتابه. وقال ابن زيد: يعني المحكمات، وكلوا علم المتشابه إلى عالمه. وقيل الناسخ دون المنسوخ، وقيل العفو دون الانتقام بما يحق فيه الانتقام، وقيل أحسن ما أنزل إليكم من أخبار الأمم الماضية (من قبل أن يأتيكم العذاب بغتة وأنتم لا تشعرون) أي من قبل أن يفاجئكم العذاب وأنتم غافلون عنه لا تشعرون به، وقيل أراد أنهم يموتون بغتة فيقعون في العذاب. والأول أولى لأن الذي يأتيهم بغتة هو العذاب في الدنيا بالقتل والأسر والقهر والخوف والجدب، لا عذاب الآخرة ولا الموت، لأنه لم يسند الإتيان إليه (أن تقول نفس يا حسرتا على ما فرطت في جنب الله) قال البصريون: أي حذرا أن تقول. وقال الكوفيون: لئلا تقول. قال المبرد:
بادروا خوف أن تقول، أو حذرا من أن تقول نفس. وقال الزجاج: خوف أن تصيروا إلى حال تقولون فيها: يا حسرتا على ما فرطت في جنب الله، قيل والمراد بالنفس هنا النفس الكافرة، وقيل المراد به التكثير كما في قوله - علمت نفس ما أحضرت - قرأ الجمهور " يا حسرتا " بالألف بدلا من الياء المضاف إليها، والأصل يا حسرتي، وقرأ ابن كثير " يا حسرتاه " بهاء السكت وقفا، وقرأ أبو جعفر " يا حسرتي " بالياء على الأصل.
والحسرة: الندامة، ومعنى (على ما فرطت في جنب الله) على ما فرطت في طاعة الله، قال الحسن. وقال الضحاك: على ما فرطت في ذكر الله، ويعنى به القرآن والعمل به. وقال أبو عبيدة (في جنب الله) أي في ثواب الله. وقال الفراء: الجنب القرب والجوار: أي في قرب الله وجواره، ومنه قوله - والصاحب بالجنب - والمعنى على هذا القول، على ما فرطت في طلب جنب الله: أي في طلب جواره وقربه وهو الجنة، وبه قال ابن الأعرابي وقال الزجاج: أي فرطت في الطريق الذي هو طريق الله من توحيده والإقرار بنبوة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وعلى هذا فالجنب بمعنى الجانب: أي قصرت في الجانب الذي يؤدي إلى رضا الله، ومنه قول الشاعر:
* للناس جنب والأمير جنب * أي الناس من جانب والأمير من جانب (وإن كنت لمن الساخرين) أي وما كنت إلا من المستهزئين بدين الله في الدنيا، ومحل الجملة النصب على الحال. قال قتادة: لم يكفه أن ضيع طاعة الله حتى سخر من أهلها (أو تقول لو أن الله هداني لكنت من المتقين) أي لو أن الله أرشدني إلى دينه لكنت ممن يتقي الشرك والمعاصي، وهذا من جملة ما يحتج به المشركون من الحجج الزائفة، ويتعللون به من العلل الباطلة كما في قوله - سيقول الذين أشركوا لو شاء الله ما أشركنا - فهي كلمة حق يريدون بها باطلا. ثم ذكر سبحانه مقالة أخرى مما قالوا فقال (أو تقول حين ترى العذاب لو أن لي كرة) أي رجعة إلى الدنيا (فأكون من المحسنين) المؤمنين بالله الموحدين له، المحسنين في أعمالهم، وانتصاب أكون إما لكونه معطوفا على كرة فإنها مصدر، وأكون في تأويل المصدر: كما في قول الشاعر: