ومعنى تكوير النهار على الليل: تغشيته إياه حتى تذهب ظلمته، وهو معنى قوله تعالى - يغشى الليل النهار يطلبه حثيثا - هكذا قال قتادة وغيره. وقال الضحاك: أي يلقى هذا على هذا، وهذا على هذا، وهو مقارب للقول الأول. وقيل معنى الآية: أن ما نقص من الليل دخل في النهار، وما نقص من النهار دخل في الليل، وهو معنى قوله - يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل - وقيل المعنى: إن هذا يكر على هذا وهذا يكر على هذا كرورا متتابعا. قال الراغب: تكوير الشئ إدارته وضم بعضه إلى بعض ككور العمامة. والإشارة بهذا التكوير المذكور في الآية إلى جريان الشمس في مطالعها وانتقاص الليل والنهار وازديادهما. قال الرازي: إن النور والظلمة عسكران عظيمان، وفي كل يوم يغلب هذا ذاك، وذاك هذا، ثم ذكر تسخيره لسلطان النهار وسلطان الليل، وهما الشمس والقمر فقال: (وسخر الشمس والقمر) أي جعلهما منقادين لأمره بالطلوع والغروب لمنافع العباد، ثم بين كيفية هذا التسخير فقال (كل يجري لأجل مسمى) أي يجري في فلكه إلى أن تنصرم الدنيا، وذلك يوم القيامة وقد تقدم الكلام على الأجل المسمى لجريهما مستوفى في سورة " يس " (ألا هو العزيز الغفار) ألا حرف تنبيه، والمعنى: تنبهوا أيها العباد، فالله هو الغالب الساتر لذنوب خلقه بالمغفرة. ثم بين سبحانه نوعا آخر من قدرته وبديع صنعه، فقال (خلقكم من نفس واحدة) وهي نفس آدم (ثم جعل منها زوجها) جاء بثم للدلالة على ترتب خلق حواء على خلق آدم، وتراخيه عنه لأنها خلقت منه، والعطف: إما على مقدر هو صفة لنفس. قال الفراء والزجاج:
التقدير خلقكم من نفس خلقها واحدة ثم جعل منها زوجها. ويجوز أن يكون العطف على معنى واحدة: أي من نفس انفردت ثم جعل الخ، والتعبير بالجعل دون الخلق مع العطف بثم للدلالة على أن خلق حواء من ضلع آدم أدخل في كونه آية باهرة دالة على كمال القدرة، لأن خلق آدم هو على عادة الله المستمرة في خلقه، وخلقها على الصفة المذكورة لم تجر به عادة لكونه لم يخلق سبحانه أنثى من ضلع رجل غيرها، وقد تقدم تفسير هذه الآية مستوفى في سورة الأعراف. ثم بين سبحانه نوعا آخر من قدرته الباهرة فقال (وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج) وهو معطوف على خلقكم، وعبر بالإنزال لما يروى أنه خلقها في الجنة ثم أنزلها، فيكون الإنزال حقيقة، ويحتمل أن يكون مجازا، لأنها لم تعش إلا بالنبات، والنبات إنما يعيش بالماء الماء منزل من السماء، كانت الأنعام كأنها منزلة، لأن سبب سببها منزل كما أطلق على السبب في قوله:
إذا نزل السماء بأرض قوم * رعيناه وإن كانوا غضابا وقيل إن أنزل بمعنى أنشأ وجعل، أو بمعنى أعطى، وقيل جعل الخلق إنزالا، لأن الخلق إنما يكون بأمر ينزل من السماء، والثمانية الأزواج هي ما في قوله - من الضأن اثنين ومن المعز اثنين، ومن الإبل اثنين ومن البقر اثنين - ويعني بالاثنين في الأربعة المواضع الذكر والأنثى، وقد تقدم تفسير الآية في سورة الأنعام. ثم بين سبحانه نوعا آخر من قدرته البديعة فقال (يخلقكم في بطون أمهاتكم خلقا من بعد خلق) والجملة استئنافية لبيان ما تضمنته من الأطوار المختلفة في خلقهم، وخلقا مصدر مؤكد للفعل المذكور، و (من بعد خلق) صفة له:
أي خلقا كائنا من بعد خلق. قال قتادة والسدي: نطفة ثم علقة ثم مضغة ثم عظما ثم لحما. وقال ابن زيد: خلقكم خلقا في بطون أمهاتكم من بعد خلقكم في ظهر آدم، وقوله (في ظلمات ثلاث) متعلق بقوله " يخلقكم " وهذه الظلمات الثلاث هي: ظلمة البطن، وظلمة الرحم، وظلمة المشيمة قاله مجاهد وعكرمة وقتادة والضحاك. وقال سعيد بن جبير: ظلمة المشيمة، وظلمة الرحم، وظلمة الليل. وقال أبو عبيدة: ظلمة صلب الرجل، وظلمة بطن المرأة، وظلمة الرحم، والإشارة بقوله (ذلكم الله) إليه سبحانه باعتبار أفعاله السابقة، والاسم الشريف