نصب: أي ينزل من السماء بردا يكون كالجبال. والحاصل أن " من " في من السماء لابتداء الغاية بلا خلاف و " من " في من جبال فيها ثلاثة أوجه: الأول لابتداء الغاية فتكون هي ومجرورها بدلا من الأولى بإعادة الخافض بدل اشتمال. الثاني أنها للتبعيض فتكون على هذا هي ومجرورها في محل نصب على أنها مفعول الإنزال، كأنه قال: وينزل بعض جبال. الثالث أنها زائدة: أي ينزل من السماء جبالا. وأما " من " في من برد ففيها أربعة أوجه: الثلاثة المتقدمة. والرابع أنها لبيان الجنس، فيكون التقدير على هذا الوجه: وينزل من السماء بعض جبال التي هي البرد.
قال الزجاج: معنى الآية: وينزل من السماء من جبال برد فيها كما تقول: هذا خاتم في يدي من حديد: أي خاتم حديد في يدي، لأنك إذا قلت هذا خاتم من حديد وخاتم حديد كان المعنى واحدا انتهى. وعلى هذا يكون من برد في موضع جر صفة لجبال كما كان من حديد صفة لخاتم ويكون مفعول ينزل من جبال، ويلزم من كون الجبال بردا أن يكون المنزل بردا. وذكر أبو البقاء أن التقدير: شيئا من جبال، فحذف الموصوف واكتفى بالصفة (فيصيب به من يشاء) أي يصيب بما ينزل من البرد من يشاء أن يصيبه من عباده (ويصرفه عمن يشاء) منهم، أو يصيب به مال من يشاء ويصرفه عن مال من يشاء، وقد تقدم الكلام عن مثل هذا في البقرة (يكاد سنا برقه يذهب الأبصار) السنا الضوء: أي يكاد ضوء البرق الذي في السحاب يذهب بالأبصار من شدة بريقه وزيادة لمعانه، وهو كقوله - يكاد البرق يخطف أبصارهم -. قال الشماخ:
وما كادت إذا رفعت سناها * ليبصر ضوءها إلا البصير وقال امرؤ القيس:
يضيء سناه أو مصابيح راهب * أهان السليط في الذبال المفتل فالسنا بالقصر ضوء البرق وبالمد الرفعة، كذا قال المبرد وغيره. وقرأ طلحة بن مصرف ويحيى بن وثاب " سناء برقه " بالمد على المبالغة في شدة الضوء والصفاء، فأطلق عليه اسم الرفعة والشرف. وقرأ طلحة ويحيى أيضا بضم الباء من برقه وفتح الراء. قال أحمد بن يحيى ثعلب: وهي على هذه القراءة جمع برق. وقال النحاس: البرقة المقدار من البرق والبرقة الواحدة. وقرأ الجحدري وابن القعقاع (يذهب) بضم الياء وكسر الهاء من الإذهاب.
وقرأ الباقون " سنا " بالقصر " وبرقه " بفتح الباء وسكون الراء و " يذهب " بفتح الياء والهاء من الذهاب، وخطأ قراءة الجحدري وابن القعقاع الأخفش وأبو حاتم. ومعنى ذهاب البرق بالأبصار: خطفه إياها من شدة الإضاءة وزيادة البريق، والباء في الأبصار على قراءة الجمهور للإلصاق، وعلى قراءة غيرهم زائدة (يقب الله الليل والنهار) أي يعاقب بينهما، وقيل يزيد في أحدهما وينقص الآخر، وقيل يقلبهما باختلاف ما يقدره فيهما من خير وشر ونفع وضر، وقيل بالحر والبرد، وقيل المراد بذلك تغيير النهار بظلمة السحاب مرة وبضوء الشمس أخرى، وتغيير الليل بظلمة السحاب تارة وبضوء القمر أخرى، والإشارة بقوله (إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار) إلى ما تقدم، ومعنى العبرة: الدلالة الواضحة التي يكون بها الاعتبار، والمراد بأولى الأبصار كل من له بصر يبصر به. ثم ذكر سبحانه دليلا ثالثا من عجائب خلق الحيوان وبديع صنعته فقال (والله خلق كل دابة من ماء) قرأ يحيى بن وثاب والأعمش وحمزة والكسائي " والله خالق كل دابة " وقرأ الباقون " خلق " والمعنيان صحيحان، والدابة:
كل ما دب على الأرض من الحيوان، يقال دب يدب فهو دأب، والهاء للمبالغة، ومعنى (من ماء) من نطفة، وهي المني، كذا قال الجمهور. وقال جماعة: إن المراد الماء المعروف لأن آدم خلق من الماء والطين. وقيل في الآية تنزيل الغالب منزلة الكل على القول الأول، لأن في الحيوانات ما يتولد لا عن نطفة، ويخرج من هذا