لما وقع ما وقع منهم مع حبيب النجار غضب الله له وعجل لهم النقمة وأهلكهم بالصيحة، ومعنى (وما أنزلنا على قومه من بعده) أي على قوم حبيب النجار من بعد قتلهم له، أو من بعد رفع الله له إلى السماوات على الاختلاف السابق (من جند من السماء) لإهلاكهم وللانتقام منهم: أي لم تحتج إلى إرسال جنود من السماء لإهلاكهم كما وقع ذلك للنبي صلى الله عليه وآله وسلم يوم بدر من إرسال الملائكة لنصرته وحرب أعدائه (وما كنا منزلين) أي وما صح في قضائنا وحكمتنا عبد أن ننزل لإهلاكهم جندا لسبق قضائنا وقدرنا بأن إهلاكهم بالصيحة لا بإنزال الجند. وقال قتادة ومجاهد والحسن: أي ما أنزلنا عليهم من رسالة من السماء ولا نبي بعد قتله. وروي عن الحسن أنه قال: هم الملائكة النازلون بالوحي على الأنبياء، والظاهر أن معنى النظم القرآني تحقير شأنهم وتصغير أمرهم: أي ليسوا بأحقاء بأن ننزل لإهلاكهم جندا من السماء، بل أهلكناهم بصيحة واحدة كما يفيده قوله (إن كانت إلا صيحة واحدة) أي إن كانت العقوبة أو النقمة أو الأخذة إلا صيحة واحدة صاح بها جبريل فأهلكهم.
قال المفسرون: أخذ جبريل بعضادتي باب المدينة، ثم صاح بهم صيحة فإذا هم ميتون لا يسمع لهم حس كالنار إذا طفئت، وهو معنى قوله (فإذا هم خامدون) أي قوم خامدون ميتون، شبههم بالنار إذا طفئت، لأن الحياة كالنار الساطعة، والموت كخمودها. قرأ الجمهور " صيحة " بالنصب على أن كان ناقصة، واسمها ضمير يعود إلى ما يفهم من السياق كما قدمنا. وقرأ أبو جعفر وشيبة والأعرج ومعاذ القاري برفعها على أن كان تامة: أي وقع وحدث، وأنكر هذه القراءة أبو حاتم وكثير من النحويين بسبب التأنيث في قوله (إن كانت) قال أبو حاتم: فلو كان كما قرأ أبو جعفر لقال " إن كان إلا صيحة " وقدر الزجاج هذه القراءة بقوله: إن كانت عليهم صيحة إلا صيحة واحدة، وقدرها غيره: ما وقعت عليهم إلا صيحة واحدة. وقرأ عبد الله بن مسعود " إن كانت إلا زقية واحدة " والزقية الصيحة قال النحاس: وهذا مخالف للمصحف، وأيضا فإن اللغة المعروفة زقا يزقو إذا صاح، ومنه المثل " أثقل من الزواقي " فكان يجب على هذا أن تكون زقوة، ويجاب عنه بما ذكره الجوهري قال: الزقو والزقي مصدر وقد زقا الصدا يزقو زقا: أي صاح: وكل صائح زاق، والزقية الصيحة (يا حسرة على العباد) قرأ الجمهور بنصب حسرة، على أنها منادي منكر كأنه نادى الحسرة وقال لها: هذا أوانك فاحضري. وقيل إنها منصوبة على المصدرية، والمنادي محذوف، والتقدير: يا هؤلاء تحسروا حسرة. وقرأ قتادة وأبي في رواية عنه بضم حسرة على النداء. قال الفراء: في توجيه هذه القراءة: إن الاختيار النصب وإنها لو رفعت النكرة لكان صوابا، واستشهد بأشياء نقلها عن العرب منها أنه سمع من العرب يا مهتم بأمرنا لا تهتم، وأنشد: * يا دار غيرها البلى تغييرا * قال النحاس: وفي هذا إبطال باب النداء أو أكثره. قال: وتقدير ما ذكره: يا أيها المهتم لا تهتم بأمرنا، وتقدير البيت: يا أيتها الدار. وحقيقة الحسرة أن يلحق الإنسان من الندم ما يصير به حسيرا. قال ابن جرير: المعنى يا حسرة من العباد على أنفسهم وتندما وتلهفا في استهزائهم برسل الله، ويؤيد هذا قراءة ابن عباس وعلي بن الحسين " يا حسرة العباد " على الإضافة، ورويت هذه القراءة عن أبي. وقال الضحاك: إنها حسرة الملائكة على الكفار حين كذبوا الرسل. وقيل هي من قول الرجل الذي جاء من أقصى المدينة. وقيل إن القائل: يا حسرة على العباد هم الكفار المكذبون، والعباد الرسل، وذلك أنهم لما رأوا العذاب تحسروا على قتلهم وتمنوا الإيمان قاله أبو العالية ومجاهد، وقيل إن التحسر عليهم هو من الله عز وجل بطريق الاستعارة لتعظيم ما جنوه. وقرأ ابن هرمز ومسلم ابن جندب وعكرمة وأبو الزناد " يا حسره " بسكون الهاء إجراء للوصل مجرى الوقف، وقرئ " يا حسرتا " كما قرئ بذلك في سورة الزمر، وجملة (ما يأتيهم من رسول إلا كانوا به يستهزئون) مستأنفة مسوقة لبيان ما كانوا عليه