فتح القدير - الشوكاني - ج ٤ - الصفحة ٣٠٩
المطلقة على شئ كان في أول هذا العالم، وإن كان هذا تفسيرا منه بمحض الرأي، فليس الكتاب العزيز عرضة لتلاعب آراء الرجال به، ولهذا ورد الوعيد على من فسر القرآن برأيه، فاحذر أيها الطالب للحق عن قبول مثل هذه التفاسير واشدد يديك في تفسير كتاب الله ما تقتضيه اللغة العربية، فهو قرآن عربي كما وصفه الله، فإن جاءك التفسير عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فلا تلتفت إلى غيره، وإذا جاء نهر الله بطل نهر معقل، وكذلك ما جاء عن الصحابة رضي الله عنهم فإنهم من جملة العرب ومن أهل اللغة وممن جمع إلى اللغة العربية العلم بالاصطلاحات الشرعية، ولكن إذا كان معنى اللفظ أوسع مما فسروه به في لغة العرب فعليك أن تضم إلى ما ذكره الصحابي ما تقتضيه لغة العرب وأسرارها، فخذ هذه كلية تنتفع بها، وقد ذكرنا في خطبة هذا التفسير ما يرشدك ما إلى هذا.
قال الحسن: إن الأمانة عرضت على السماوات والأرض والجبال فقالت: وما فيها؟ فقال لها: إن أحسنت آجرتك وإن أسأت عذبتك، فقالت لا. قال مجاهد: فلما خلق الله آدم عرضها عليه، وقيل له ذلك فقال: قد تحملتها.
وروى نحو هذا عن غير الحسن ومجاهد. قال النحاس: وهذا القول هو الذي عليه أهل التفسير. وقيل هذه الأمانة هي ما أودعه الله في السماوات والأرض والجبال وسائر المخلوقات من الدلائل على ربوبيته أن يظهروها فأظهروها، إلا الإنسان فإنه كتمها وجحدها. كذا قال بعض المتكلمين مفسرا للقرآن برأيه الزائف، فيكون على هذا معنى عرضنا أظهرنا. قال جماعة من العلماء: ومن المعلوم أن الجماد لا يفهم ولا يجيب، فلابد من تقدير الحياة فيها، وهذا العرض في الآية هو عرض تخيير لا عرض إلزام. وقال القفال وغيره: العرض في هذه الآية ضرب مثل: أي إن السماوات والأرض والجبال على كبر أجرامها لو كانت بحيث يجوز تكليفها لثقل عليها تقلد الشرائع لما فيها من الثواب والعقاب: أي أن التكليف أمر عظيم حقه أن تعجز عنه السماوات والأرض والجبال، وقد كلفه الإنسان وهو ظلوم جهول لو عقل، وهذا كقوله - لو أنزلنا هذا القرآن على جبل - وقيل إن عرضنا بمعنى عارضنا:
أي عارضنا الأمانة بالسموات والأرض والجبال، فضعفت هذه الأشياء عن الأمانة ورجحت الأمانة بثقلها عليها.
وقيل إن عرض الأمانة على السماوات والأرض والجبال إنما كان من آدم عليه السلام، وأن الله أمره أن يعرض ذلك عليها، وهذا أيضا تحريف لا تفسير، ومعنى (وحملها الإنسان) أي التزم بحقها، وهو في ذلك ظلوم لنفسه جهول لما يلزمه، أو جهول لقدر ما دخل فيه كما قال سعيد بن جبير، أو جهول بربه كما قال الحسن. وقال الزجاج:
معنى حملها خان فيها، وجعل الآية في الكفار والفساق والعصاة، وقيل معنى حملها: كلفها وألزمها، أو صار مستعدا لها بالفطرة، أو حملها عند عرضها عليه في عالم الذر عند خروج ذرية آدم من ظهره وأخذ الميثاق عليهم، واللام في (ليعذب الله المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات) متعلق بحملها أي حملها الإنسان ليعذب الله العاصي ويثيب المطيع، وعلى هذا فجملة (إنه كان ظلوما جهولا) معترضة بين الجملة وغايتها للإيذان بعدم وفائه بما تحمله. قال مقاتل بن سليمان ومقاتل بن حبان: ليعذبهم بما خانوا من الأمانة وكذبوا من الرسل ونقضوا من الميثاق الذي أقروا به حين أخرجوا من ظهر آدم. وقال الحسن وقتادة: هؤلاء المعذبون هم الذين خانوها، وهؤلاء الذين يتوب الله عليهم هم الذين أدوها. وقال ابن قتيبة: أي عرضنا ذلك ليظهر نفاق المنافق وشرك المشرك فيعذبهما الله ويظهر إيمان المؤمن فيتوب الله عليه: أي يعود عليه بالمغفرة والرحمة إن حصل منه تقصير في بعض الطاعات، ولذلك ذكر بلفظ التوبة، فدل على أن المؤمن العاصي خارج من العذاب (وكان الله غفورا رحيما) أي كثير المغفرة والرحمة للمؤمنين من عباده إذا قصروا في شئ مما يجب عليهم. وقد قيل إن المراد بالأمانة العقل،
(٣٠٩)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 304 305 306 307 308 309 310 311 312 313 314 ... » »»
الفهرست