إلى البر إذا هم يشركون) أي فاجئوا المعاودة إلى الشرك، ودعوا غير الله سبحانه. والركوب هو الاستعلاء، وهو متعد بنفسه، وإنما عدي بكلمة في للإشعار بأن المركوب في نفسه من قبيل الأمكنة، واللام في (ليكفروا بما آتيناهم) وفي قوله (وليتمتعوا) للتعليل: أي فاجئوا الشرك بالله ليكفروا بنعمة الله وليتمتعوا بهما فهما في الفعلين لام كي، وقيل هما لاما الأمر تهديدا ووعيدا: أي اكفروا بما أعطيناكم من النعمة وتمتعوا، ويدل على هذه القراءة قراءة أبي " وتمتعوا " وهذا الاحتمال للأمرين إنما هو على قراءة أبي عمرو وابن عامر وعاصم وورش بكسر اللام، وأما على قراءة الجمهور بسكونها فلا خلاف أنها لام الأمر، وفي قوله (فسوف يعلمون) تهديد عظيم لهم:
أي فسيعلمون عاقبة ذلك وما فيه من الوبال عليهم (أو لم يروا أنا جعلنا حرما آمنا) أي ألم ينظروا: يعني كفار قريش أنا جعلنا حرمهم هذا حرما آمنا يأمن فيه ساكنه من الغارة والقتل والسبي والنهب فصاروا في سلامة وعافية مما صار فيه غيرهم من العرب فإنهم في كل حين تطرقهم الغارات، وتجتاح أموالهم الغزاة، وتسفك دماءهم الجنود، وتستبيح حرمهم وأموالهم شطار العرب وشياطينها، وجملة (ويتخطف الناس من حولهم) في محل نصب على الحال: أي يختلسون من حولهم بالقتل والسبي والنهب، والخطف: الأخذ بسرعة، وقد مضى تحقيق معناه في سورة القصص (أفبالباطل يؤمنون) وهو الشرك بعد ظهور حجة الله عليهم وإقرارهم بما يوجب التوحيد (وبنعمة الله يكفرون) يجعلون كفرها مكان شكرها، وفي هذا الاستفهام من التقريع والتوبيخ مالا يقادر قدره (ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا) أي لا أحد أظلم منه، وهو من زعم أن الله شريكا (أو كذب بالحق لما جاءه) أي كذب بالرسول الذي أرسل إليه والكتاب الذي أنزله على رسوله. وقال السدي: كذب بالتوحيد، والظاهر شموله لما يصدق عليه أنه حق. ثم هدد المكذبين وتوعدهم فقال: أليس في جهنم مثوى للكافرين (أي مكان يستقرون فيه، والاستفهام للتقرير، والمعنى: أليس يستحقون الاستقرار فيها وقد فعلوا. ثم لما ذكر حال المشركين الجاحدين للتوحيد الكافرين بنعم الله أردفه بحال عباده الصالحين، فقال (والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا) أي جاهدوا في شأن الله لطلب مرضاته ورجاء ما عنده من الخير لنهدينهم سبلنا: أي الطريق الموصل إلينا. قال ابن عطية: هي مكية نزلت قبل فرض الجياد العرفي، وإنما هو جهاد عام في دين الله وطلب مرضاته، وقيل: الآية هذه نزلت في العباد. وقال إبراهيم بن أدهم: هي في الذين يعملون بما يعلمون (وإن الله لمع المحسنين) بالنصر والعون، ومن كان معه لم يخذل، ودخلت لام التوكيد على مع بتأويل كونها اسما، أو على أنها حرف ودخلت عليها لإفادة معنى الاستقرار كما تقول: ان زيدا لفي الدار، والبحث مقرر في علم النحو.
وقد أخرج ابن مردويه عن علي بن أبي طالب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم " لما نزلت هذه الآية - إنك ميت وإنهم ميتون - قلت يا رب أيموت الخلائق كلهم ويبقى الأنبياء؟ فنزلت - كل نفس ذائقة الموت ثم إلينا ترجعون - ". وينظر كيف صحة هذا، فإن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعد أن يسمع قول الله سبحانه - إنك ميت وانهم ميتون - يعلم أنه ميت، وقد علم أن من قبله من الأنبياء قد ماتوا، وأنه خاتم الأنبياء فكيف ينشأ عن هذه الآية ما سأل عنه علي رضي الله عنه من قوله " أيموت الخلائق ويبقى الأنبياء " فلعل هذه الرواية لا تصح مرفوعة ولا موقوفة. وأخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي وابن عساكر، قال السيوطي بسند ضعيف عن ابن عمر قال " خرجت مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتى دخل بعض حيطان المدينة، فجعل يلتقط التمر ويأكل، فقال لي: مالك لا تأكل؟ قلت: لا أشتهيه يا رسول الله، قال: لكني أشتهيه وهذه صبح رابعة منذ لم أذق طعاما ولم أجده، ولو شئت لدعوت ربي فأعطاني مثل ملك كسرى وقيصر،