من أحوال محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلا الصدق، فكيف يكون كما زعموا، ثم إن هؤلاء الكهنة يعظمون الشياطين، وهذا النبي المرسل من عند الله برسالته إلى الناس يذمهم ويلعنهم ويأمر بالتعوذ منهم. ثم لما كان قد قال قائل من المشركين: إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم شاعر، بين سبحانه حال الشعراء ومنافاة ما هم عليه لما عليه النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال (والشعراء يتبعهم الغاوون) والمعنى: أن الشعراء يتبعهم: أي يجاريهم ويسلك مسلكهم ويكون من جملتهم الغاوون: أي الضالون عن الحق، والشعراء جمع شاعر، والغاوون جمع غاو، وهم ضلال الجن والإنس. وقيل الزائلون عن الحق، وقيل الذين يروون الشعر المشتمل على الهجاء وما لا يجوز، وقيل المراد شعراء الكفار خاصة. قرأ الجمهور " والشعراء " بالرفع على أنه مبتدأ وخبره ما بعده، وقرأ عيسى بن عمر " الشعراء " بالنصب على الاشتغال، وقرأ نافع وشيبة والحسن والسلمي يتبعهم بالتخفيف، وقرأ الباقون بالتشديد.
ثم بين سبحانه قبائح شعراء الباطل فقال (ألم تر أنهم في كل واد يهيمون) والجملة مقررة لما قبلها، والخطاب لكل من تتأتى منه الرؤية، يقال: هام يهيم هيما وهيمانا إذا ذهب على وجهه: أي ألم تر أنهم في كل فن من فنون الكذب يخوضون، وفي كل شعب من شعاب الزور يتكلمون، فتارة يمزقون الأعراض بالهجاء، وتارة يأتون من المجون بكل ما يمجه السمع ويستقبحه العقل، وتارة يخوضون في بحر السفاهة والوقاحة، ويذمون الحق ويمدحون الباطل، ويرغبون في فعل المحرمات، ويدعون الناس إلى فعل المنكرات كما تسمعه في أشعارهم من مدح الخمر والزنا واللواط ونحو هذه الرذائل الملعونة، ثم قال سبحانه (وأنهم يقولون مالا يفعلون) أي يقولون فعلنا وفعلنا وهم كذبة في ذلك، فقد يدلون بكلامهم على الكرم والخير ولا يفعلونه، وقد ينسبون إلى أنفسهم من أفعال الشر مالا يقدرون على فعله كما تجده في كثير من أشعارهم من الدعاوي الكاذبة والزور الخالص المتضمن لقذف المحصنات، وأنهم فعلوا بهن كذا وكذا، وذلك كذب محض وافتراء بحت. ثم استثنى سبحانه الشعراء المؤمنين الصالحين الذين أغلب أحوالهم تحري الحق والصدق فقال (إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات) أي دخلوا في حزب المؤمنين وعملوا بأعمالهم الصالحة، (وذكروا الله كثيرا) في أشعارهم (وانتصروا من بعد ما ظلموا) كمن يهجو منهم من هجاء، أو ينتصر لعالم أو فاضل كما كان يقع من شعراء النبي صلى الله عليه وآله وسلم فإنهم كانوا يهجون من يهجوه، ويحمون عنه ويذبون عن عرضه، ويكافحون شعراء المشركين وينافحونهم، ويدخل في هذا من انتصر بشعره لأهل السنة وكافح أهل البدعة، وزيف ما يقوله شعراؤهم من مدح بدعتهم وهجو السنة المطهرة، كما يقع ذلك كثيرا من شعراء الرافضة ونحوهم، فإن الانتصار للحق بالشعر وتزييف الباطل به من أعظم المجاهدة، وفاعله من المجاهدين في سبيل الله المنتصرين لدينه القائمين بما أمر الله بالقيام به.
واعلم أن الشعر في نفسه ينقسم إلى أقسام. فقد يبلغ ما لا خير فيه منه إلى قسم الحرام، وقد يبلغ ما فيه خير منه إلى قسم الواجب، وقد وردت أحاديث في ذمه وذم الاستكثار منه، ووردت أحاديث أخر في إباحته وتجويزه، والكلام في تحقيق ذلك يطول، وسنذكر في أخر البحث ما ورد في ذلك من الأحاديث. ثم ختم سبحانه هذه السورة بآية جامعة للوعيد كله فقال (وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون) فإن في قوله " سيعلم " تهويلا عظيما وتهديدا شديد، وكذا في إطلاق الذين ظلموا وإبهام أي منقلب ينقلبون، وخصص هذه الآية بعضهم بالشعراء، ولا وجه لذلك فإن الاعتبار بعموم اللفظ. وقوله (أي منقلب) صفة لمصدر محذوف: أي ينقلبون منقلبا أي منقلب، وقدم لتضمنه معنى الاستفهام، ولا يعمل فيه سيعلم، لأن الاستفهام لا يعمل فيه ما قبله، بل هو معلق عن العمل فيه. وقرأ ابن عباس والحسن " أي منفلت ينفلتون " بالفاء مكان القاف، والتاء مكان الباء من الانفلات