الاهتمام بشأنهم أولى، وهدايتهم إلى الحق أقدم. قيل هم قريش، وقيل بنو عبد مناف، وقيل بنو هاشم. وقد ثبت في الصحيح أن هذه الآية لما نزلت دعا النبي صلى الله عليه وآله وسلم قريشا، فاجتمعوا فعم وخص، فذلك منه صلى الله عليه وآله وسلم بيان للعشيرة الأقربين، وسيأتي بيان ذلك (واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين) يقال: خفض جناحه إذا ألانه، وفيه استعارة حسنة. والمعنى: ألن جناحك وتواضع لمن اتبعك من المؤمنين وأظهر لهم المحبة والكرامة وتجاوز عنهم (فإن عصوك) أي خالفوا أمرك ولم يتبعوك (فقل إني بريء مما تعملون) أي من عملكم، أو من الذي تعملونه، وهذا يدل على أن المراد بالمؤمنين المشارفون للإيمان المصدقون باللسان، لأن المؤمنين الخلص لا يعصونه ولا يخالفونه. ثم بين له ما يعتمد عليه عند عصيانهم له فقال (فتوكل على العزيز الرحيم) أي فوض أمورك إليه فإنه القادر على قهر الأعداء، وهو الرحيم للأولياء. قرأ نافع وابن عامر " فتوكل " بالفاء. وقرأ الباقون " وتوكل " بالواو، فعلى القراءة الأولى يكون ما بعد الفاء كالجزء مما قبلها مترتبا عليه، وعلى القراءة الثانية يكون ما بعد الواو معطوفا على ما قبلها عطف جملة على جملة من غير ترتيب (الذي يراك حين تقوم) أي حين تقوم إلى الصلاة وحدك في قول أكثر المفسرين. وقال مجاهد: حين تقوم حيثما كنت (وتقلبك في الساجدين) أي ويراك إن صليت في الجماعة راكعا وساجدا وقائما، كذا قال أكثر المفسرين. وقيل يراك في الموحدين من نبي إلى نبي حتى أخرجك في هذه الأمة. وقيل المراد بقوله " يراك " حين تقوم قيامه إلى التهجد، وقوله (وتقلبك في الساجدين) يريد ترددك في تصفح أحوال المجتهدين في العبادة وتقلب بصرك فيهم، كذا قال مجاهد (إنه هو السميع) لما تقوله (العليم) به. ثم أكد سبحانه معنى قوله (وما تنزلت به الشياطين) وبينه فقال (هل أنبئكم على من تنزل الشياطين) أي على من تتنزل، فحذف إحدى التاءين، وفيه بيان استحالة تنزل الشياطين على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (تنزل على كل أفاك أثيم) والأفاك الكثير الإفك، والأثيم كثير الإثم، والمراد بهم كل من كان كاهنا، فإن الشياطين كانت تسترق السمع ثم يأتون إليهم فيلقونه إليهم، وهو معنى قوله (يلقون السمع) أي ما يسمعونه مما يسترقونه، فتكون جملة " يلقون السمع " على هذا راجعة إلى الشياطين في محل نصب على الحال: أي حال كون الشياطين ملقين السمع: أي ما يسمعونه من الملأ الأعلى إلى الكهان. ويجوز أن يكون المعنى: إن الشياطين يلقون السمع: أي ينصتون إلى الملأ الأعلى ليسترقوا منهم شيئا، ويكون المراد بالسمع على الوجه الأول المسموع، وعلى الوجه الثاني نفس حاسة السمع. ويجوز أن تكون جملة " يلقون السمع " راجعة إلى كل أفاك أثيم على أنها صفة أو مستأنفة، ومعنى الإلقاء أنهم يسمعون ما تلقيه إليهم الشياطين من الكلمات التي تصدق الواحدة منها، وتكذب المائة الكلمة كما ورد في الحديث، وجملة (وأكثرهم كاذبون) راجعة إلى كل أفاك أثيم: أي وأكثر هؤلاء الكهنة كاذبون فيما يتلقونه من الشياطين، لأنهم يضمون إلى ما يسمعونه كثيرا من أكاذيبهم المختلفة، أو أكثرهم كاذبون فيما يلقونه من السمع: أي المسموع من الشياطين إلى الناس، ويجوز أن تكون جملة (وأكثرهم كاذبون) راجعة إلى الشياطين: أي وأكثر الشياطين كاذبون فيما يلقونه إلى الكهنة مما يسمعونه، فإنهم يضمون إلى ذلك من عند أنفسهم كثيرا من الكذب. وقد قيل كيف يصح على الوجه الأول وصف الأفاكين بأن أكثرهم كاذبون بعد ما وصفوا جميعا بالإفك. وأجيب بأن المراد بالأفاك الذي يكثر الكذب لا الذي لا ينطق إلا بالكذب، فالمراد بقوله وأكثرهم كاذبون أنه قل من يصدق منهم فيما يحكى عن الشياطين، والغرض الذي سيق لأجله هذا الكلام رد ما كان يزعمه المشركون من كون النبي صلى الله عليه وآله وسلم من جملة من يلقى إليه الشيطان السمع من الكهنة ببيان أن الأغلب على الكهنة الكذب. ولم يظهر
(١٢٠)