في هذه النعم التي أعطاكم الله آمنين من الموت والعذاب باقين في الدنيا. ولما أبهم النعم في هذا فسرها بقوله (في جنات وعيون وزروع ونخل طلعها هضيم) والهضيم النضيج الرخص اللين اللطيف، والطلع ما يطلع من الثمر، وذكر النخل مع دخوله تحت الجنات لفضله على سائر الأشجار، وكثيرا ما يذكرون الشئ الواحد بلفظ يعمه وغيره كما يذكرون النعم ولا يقصدون إلا الإبل، وهكذا يذكرون الجنة، ولا يريدون إلا النخل. قال زهير:
كأن عيني في غربي مقبلة * من النواضح تسقى جنة سحقا وسحقا جمع سحوق، ولا يوصف به إلا النخل. وقيل المراد بالجنات غير النخل من الشجر، والأول أولى.
وحكى الماوردي في معنى هضيم اثنى عشر قولا أحسنها وأوفقها للغة ما ذكرناه (وتنحتون من الجبال بيوتا فرهين) النحت: النجر والبري، نحته ينحته بالكسر براه، والنحاتة البراية، وكانوا ينحتون بيوتهم من الجبال لما طالت أعمارهم وتهدم بناؤهم من المدر. قرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن ذكوان " فرهين " بغير ألف. وقرأ الباقون " فارهين " بالألف. قال أبو عبيدة وغيره: وهما بمعنى واحد. والفره: النشاط، وفرق بينهما أبو عبيد وغيره فقالوا " فارهين " حاذقين بنحتها، وقيل متجبرين، " وفرهين " بطرين أشرين، وبه قال مجاهد وغيره. وقيل شرهين. وقال الضحاك: كيسين. وقال قتادة: معجبين ناعمين آمنين، وبه قال الحسن. وقيل فرحين، قاله الأخفش. وقال ابن زيد: أقوياء (فاتقوا الله وأطيعون ولا تطيعوا أمر المسرفين) أي المشركين، وقيل الذين عقروا الناقة، ثم وصف هؤلاء المسرفين بقوله (الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون) أي ذلك دأبهم يفعلون الفساد في الأرض ولا يصدر منهم الصلاح البتة (وقالوا إنما أنت من المسحرين) أي الذين أصيبوا بالسحر قاله مجاهد وقتادة. وقيل المسحر هو المعلل بالطعام والشراب قاله الكلبي وغيره، فيكون المسحر الذي له سحر، وهو الرئة، فكأنهم قالوا إنما أنت بشر مثلنا تأكل وتشرب. قال الفراء: أي إنك تأكل الطعام والشراب وتسحر به، ومنه قول امرئ القيس أو لبيد:
فإن تسألينا فيم نحن فإننا * عصافير من هذا الأنام المسحر وقال امرؤ القيس أيضا:
أرانا موضعين لحتم غيب * ونسحر بالطعام وبالشراب قال المؤرج: المسحر المخلوق بلغة ربيعة (ما أنت إلا بشر مثلنا فأت بآية إن كنت من الصادقين) في قولك ودعواك (قال هذه ناقة) الله (لها شرب ولكم شرب يوم معلوم) أي لها نصيب من الماء ولكم نصيب منه معلوم ليس لكم أن تشربوا في اليوم الذي هو نصيبها، ولا هي تشرب في اليوم الذي هو نصيبكم. قال الفراء: الشرب الحظ من الماء. قال النحاس: فأما المصدر، فيقال فيه شرب شربا وشربا وأكثرها المضموم، والشرب بفتح الشين جمع شارب، والمراد هنا الشرب بالكسر، وبه قرأ الجمهور فيهما، وقرأ ابن أبي عبلة بالضم فيهما (ولا تمسوها بسوء فيأخذكم عذاب يوم عظيم) أي لا تمسوها بعقر، أو ضرب، أو شئ مما يسوؤها، وجواب النهي فيأخذكم (فعقروها فأصبحوا نادمين) على عقرها، لما عرفوا أن العذاب نازل بهم، وذلك أنه أنظرهم ثلاثا، فظهرت عليهم العلامة في كل يوم وندموا حيث لا ينفع الندم، لأن ذلك لا يجدي عند معاينة العذاب وظهور آثاره (فأخذهم العذاب) الذي وعدهم به. وقد تقدم تفسير قوله (إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين) وإن ربك لهو العزيز الرحيم في هذه السورة، وتقدم أيضا تفسير قصة صالح وقومه في غير هذه السورة.