إن القرآن يخاطب العقل ويدعوه إلى التأمل والتفكر، ويخاطب القلب والضمير ويدعوه إلى التدبر في ما حوله من الأدلة الناطقة، ولأجل ذلك ترى أن يستعمل مادة العقل بصور مختلفة " 47 " مرة، والتفكر كذلك " 18 " مرة، واللب " 16 " مرة، والتدبر " 8 " مرات، والنهي مرتين، وبذلك يرفع الإنسان من حضيض الجهل إلى أوج العلم والمعرفة.
إن القرآن لم يقتصر على الدعوة إلى التفكر والبرهنة بل طبقها في غير واحد من مجالات العقيدة والتشريع، فأثبت مقاصده بناصع بيانه، وساطع برهانه نأتي بنموذجين منها.
الأول: قال سبحانه: * (أفرأيتم ما تمنون * ء أنتم تخلقونه أم نحن الخالقون * نحن قدرنا بينكم الموت وما نحن بمسبوقين * على أن نبدل أمثالكم وننشأكم في ما لا تعلمون * ولقد علمتم النشأة الأولى فلولا تذكرون * أفرأيتم ما تحرثون * ء أنتم تزرعونه أم نحن الزارعون * لو نشاء لجعلناه حطاما فظلتم تفكهون * إنا لمغرمون بل نحن محرومون * أفرأيتم الماء الذي تشربون * أأنتم أنزلتموه من المزن أم نحن المنزلون * لو نشاء جعلناه أجاجا فلولا تشكرون * أفرأيتم النار التي تورون * أأنتم أنشأتم شجرتها أم نحن المنشئون) *. (1) فالله سبحانه يذكر في هذه الآيات شواهد ربوبيته، وأنه هو الخالق والمدبر، ولا خالق ولا مدبر سواه، وأن من يزعم أن هناك خالقا أو مدبرا غيره، فقد قصر فهمه أو قصر في تفكيره.
فما أروع بيانه وأتقن برهانه، يذكر فيها أمر الخلق والزرع والماء والنار ويذكر دور الإنسان فيها، فأمره في الأول، لا يزيد على أن يودع الرجل ما يمني، رحم امرأة ثم ينقطع عمله وعملها، فالعقل يحكم بأن هناك قدرة غيبية تأخذ في