انصرف على اسم الله حتى تأتينا مع جماعة الناس، فقال له مروان والله لئن فارقك الحسين الساعة ولم يبايع لا قدرت منه على مثلها أبدا حتى تكثر القتلى بينكم وبينه ولكن احبس الرجل فلا يخرج من عندك حتى يبايع أو تضرب عنقه، فلما سمع الحسين ع هذه المجابهة القاسية من مروان الوزع ابن الوزع صارحهما حينئذ بالامتناع من البيعة وانه لا يمكن ان يبايع ليزيد أبدا، فوثب الحسين ع عند ذلك وقال لمروان: ويلي عليك يا ابن الزرقاء أنت تأمر بضرب عنقي، كذبت والله ولؤمت، ثم أقبل على الوليد فقال: أيها الأمير انا أهل بيت النبوة ومعدن الرسالة ومختلف الملائكة بنا فتح الله وبنا ختم، ويزيد فاسق شارب الخمر قاتل النفس المحترمة معلن بالفسق، ومثلي لا يبايع مثله، ولكن نصبح وتصبحون وننظر وتنظرون أينا أحق بالخلافة والبيعة، ثم خرج يتهادى بين مواليه وهو يتمثل بقول يزيد بن المفرع:
- لا ذعرت السوام في غسق الصبح * مغيرا ولا دعيت يزيدا - - يوم أعطي مخافة الموت ضيما * والمنايا يرصدنني ان أحيدا - حتى اتى منزله. وقيل إنه انشدهما لما خرج من المسجد الحرام متوجها إلى العراق، وقيل غير ذلك، فقال مروان للوليد: عصيتني لا والله لا يمكنك مثلها من نفسه ابدا، فقال له الوليد: ويحك انك أشرت علي بذهاب ديني ودنياي والله ما أحب ان أملك الدنيا بأسرها واني قتلت حسينا، سبحان الله اقتل حسينا لما ان قال لا أبايع، والله ما أظن أحدا يلقى الله بدم الحسين الا وهو خفيف الميزان لا ينظر الله إليه يوم القيامة ولا يزكيه وله عذاب اليم. فقال مروان فإذا كان هذا رأيك فقد أصبت فيما صنعت، يقول هذا وهو غير حامد له على رأيه، قال المؤرخون: وكان الوليد يحب العافية. والحقيقة انه كان متورعا عن أن ينال الحسين ع منه سوء لمعرفته بمكانته لا مجرد حب العافية. ولما بلغ يزيد ما صنع الوليد عزله عن المدينة وولاها عمرو بن سعيد بن العاص الأشدق فقدمها في رمضان.
وأقام الحسين ع في منزله تلك الليلة وهي ليلة السبت لثلاث بقين من رجب سنة ستين فلما أصبح خرج من منزله يستمع الأخبار، فلقيه مروان فقال له يا أبا عبد الله اني لك ناصح فأطعني ترشد، فقال الحسين ع وما ذاك قل حتى اسمع، فقال مروان: اني آمرك ببيعة يزيد بن معاوية فإنه خير لك في دينك ودنياك، فقال الحسين ع: انا لله وإنا إليه راجعون وعلى الاسلام السلام إذ قد بليت الأمة براع مثل يزيد.
وطال الحديث بينه وبين مروان حتى انصرف وهو غضبان فلما كان آخر نهار السبت بعث الوليد الرجال إلى الحسين ع ليحضر فيبايع فقال لهم الحسين ع أصبحوا ثم ترون ونرى فكفوا تلك الليلة عنه ولم يلحوا عليه فخرج في تلك الليلة وقيل في غداتها وهي ليلة الأحد ليومين بقيا من رجب متوجها نحو مكة. ولما علم ابن الحنفية عزمه على الخروج من المدينة لم يدر أين يتوجه، فقال له يا أخي أنت أحب الناس إلي وأعزهم علي ولست والله ادخر النصيحة لأحد من الخلق وليس أحد من الخلق أحق بها منك لأنك مزاج مائي ونفسي وروحي وبصري وكبير أهل بيتي ومن وجبت طاعته في عنقي لأن الله قد شرفك علي وجعلك من سادات أهل الجنة تنح ببيعتك عن يزيد وعن الأمصار ما استطعت ثم ابعث رسلك إلى الناس فادعهم إلى نفسك فان تابعك الناس وبايعوا لك حمدت الله على ذلك وان اجتمع الناس على غيرك لم ينقص الله بذلك دينك ولا عقلك ولا تذهب به مروءتك ولا فضلك وإني أخاف عليك أن تدخل مصرا من هذه الأمصار فيختلف الناس بينهم فمنهم طائفة معك وأخرى عليك فيقتتلون فتكون لأول الأسنة غرضا فإذا خير هذه الأمة كلها نفسا وأبا وأما أضعيها دما وأذلها أهلا، فقال له الحسين ع فأين أذهب يا أخي؟ قال تخرج إلى مكة فان اطمانت بك الدار بها فذاك وإن تكن الأخرى خرجت إلى بلاد اليمن فإنهم أنصار جدك وأبيك وهم أرأف الناس وأرقهم قلوبا وأوسع الناس بلادا فان اطمانت بك الدار والا لحقت بالرمال وشعف الجبال وجزت من بلد إلى بلد حتى تنظر ما يؤول إليه أمر الناس ويحكم الله بيننا وبين القوم الفاسقين فإنك أصوب ما تكون رأيا حين تستقبل الأمر استقبالا، فقال الحسين ع يا أخي والله لو لم يكن في الدنيا ملجأ ولا مأوى لما بايعت يزيد بن معاوية، فقطع محمد بن الحنفية عليه الكلام وبكى، فبكى الحسين ع معه ساعة، ثم قال: يا أخي جزاك الله خيرا فقد نصحت وأشفقت وأرجو ان يكون رأيك سديدا موفقا وأنا عازم على الخروج إلى مكة وقد تهيأت لذلك انا واخوتي وبنو أخي وشيعتي امرهم أمري ورأيهم رأيي وأما أنت يا أخي فلا عليك ان تقيم بالمدينة فتكون لي عينا عليهم لا تخفي عني شيئا من أمورهم.
وأقبلت نساء بني عبد المطلب فاجتمعن للنياحة لما بلغهن ان الحسين ع يريد الشخوص من المدينة، حتى مشى فيهن الحسين ع فقال:
أنشدكن الله ان تبدين هذا الامر، معصية لله ولرسوله، قالت له نساء بني عبد المطلب: فلن نستبقي النياحة والبكاء فهو عندنا كيوم مات فيه رسول الله ص وعلي وفاطمة والحسن ورقية وزينب وأم كلثوم جعلنا الله فداك من الموت يا حبيب الأبرار من أهل القبور.
ولما عزم الحسين ع على الخروج من المدينة مضى في جوف الليل إلى قبر أمه فودعها ثم مضى إلى قبر أخيه الحسن ع ففعل كذلك وخرج معه بنو أخيه وإخوته وجل أهل بيته إلا محمد بن الحنفية وعبد الله بن جعفر.
وخرج ع من المدينة في جوف الليل وهو يقرأ فخرج منها خائفا يترقب قال رب نجني من القوم الظالمين ولزم الطريق الأعظم فقال له أهل بيته لو تنكبت الطريق الأعظم كما فعل ابن الزبير كيلا يلحقك الطلب فقال لا والله لا أفارقه حتى يقضي الله ما هو قاض، فلقيه عبد الله ابن مطيع فقال له جعلت فداك أين تريد؟ قال أما الآن فمكة وأما بعد فاني استخير الله قال خار الله لك وجعلنا فداك فإذا أتيت مكة فإياك أن تقرب الكوفة فإنها بلدة مشئومة بها قتل أبوك وخذل أخوك واغتيل بطعنة كادت تأتي على نفسه الزم الحرم فأنت سيد العرب لا يعدل بك أهل الحجاز أحدا ويتداعى إليك الناس من كل جانب لا تفارق الحرم فداك عمي وخالي، فوالله لئن هلكت لنسترقن بعدك. وكان دخوله ع إلى مكة يوم الجمعة لثلاث مضين من شعبان فيكون مقامه في الطريق نحوا من خمسة أيام لأنه خرج من المدينة لليلتين بقيتا من رجب كما مر.
ودخلها وهو يقرأ ولما توجه تلقاء مدين قال عيسى ربي ان يهديني سواء السبيل فأقام بمكة باقي شعبان وشهر رمضان وشوالا وذا القعدة وثماني ليال من ذي الحجة. وأقبل أهل مكة ومن كان بها من المعتمرين وأهل الآفاق يختلفون إليه وابن الزبير بها قد لزم جانب الكعبة فهو قائم يصلي عندها عامة النهار ويطوف ويأتي الحيين ع فيمن يأتيه اليومين المتواليين وبين كل يوم مرة ولا يزال يشير عليه بالرأي وهو أثقل خلق الله على ابن الزبير لأنه قد علم أن أهل الحجاز لا يبايعونه ما دام الحسين ع باقيا في البلد وان الحسين ع أطوع في الناس منه وأجل.