النبي وما جاء به من الكتاب، فإنكم عند ذلك تعلمون أن (ما بصاحبكم من جنة) وذلك لأنهم كانوا يقولون:
إن محمدا مجنون، فقال الله سبحانه قل لهم اعتبروا أمري بواحدة، وهى أن تقوموا لله، وفي ذاته مجتمعين، فيقول الرجل لصاحبه هلم فلنتصادق، هل رأينا بهذا الرجل من جنة: أي جنون أو جربنا عليه كذبا، ثم ينفرد كل واحد عن صاحبه فيتفكر وينظر، فإن في ذلك ما يدل على أن محمدا صلى الله عليه وآله وسلم صادق وأنه رسول من عند الله، وأنه ليس بكاذب ولا ساحر ولا مجنون، وهو معنى قوله (إن هو إلا نذير لكم بين يدي عذاب شديد) أي ما هو إلا نذير لكم بين يدي الساعة، وقيل إن جملة (ما بصاحبكم من جنة) مستأنفة من جهة الله سبحانه مسوقة للتنبيه على طريقة النظر والتأمل بأن هذا الأمر العظيم والدعوى الكبيرة لا يعرض نفسه له إلا مجنون لا يبالي بما يقال فيه وما ينسب إليه من الكذب، وقد علموا أنه أرجح الناس عقلا، فوجب أن يصدقوه في دعواه، لا سيما مع انضمام المعجزة الواضحة وإجماعهم على أنه لم يكن ممن يفتري الكذب، ولا قد جربوا عليه كذبا مدة عمره وعمرهم. وقيل يجوز أن تكون " ما " في " ما بصاحبكم " استفهامية: أي ثم تتفكروا أي شئ به من آثار الجنون، وقيل المراد بقوله (إنما أعظكم بواحدة) هي " لا إله إلا الله " كذا قال مجاهد والسدي. وقيل القرآن لأنه يجمع المواعظ كلها، والأولى ما ذكرناه أولا. وقال الزجاج: إن " أن " في قوله (أن تقوموا) في موضع نصب بمعنى لأن تقوموا. وقال السدي: معنى مثنى وفرادى: منفردا برأيه ومشاورا لغيره. وقال القتيبي: مناظرا مع عشيرته ومفكرا في نفسه. وقيل المثنى عمل النهار، والفرادى عمل الليل، قاله الماوردي. وما أبرد هذا القول وأقل جدواه. واختار أبو حاتم وابن الأنباري الوقف على قوله (ثم تتفكروا) وعلى هذا تكون جملة (ما بصاحبكم من جنة) مستأنفة كما قدمنا، وقيل ليس بوقف، لأن المعنى: ثم تتفكروا هل جربتم عليه كذبا، أو رأيتم منه جنة، أو في أحواله من فساد. ثم أمر سبحانه أن يخبرهم أنه لم يكن له غرض في الدنيا ولا رغبة فيها حتى تنقطع عندهم الشكوك ويرتفع الريب فقال (قل ما سألتكم من أجر فهو لكم) أي ما طلبت منكم من جعل تجعلونه لي مقابل الرسالة فهو لكم إن سألتكموه، والمراد نفي السؤال بالكلية، كما يقول القائل: ما أملكه في هذا فقد وهبته لك، يريد أنه لا ملك له فيه أصلا، ومثل هذه الآية قوله - قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى - وقوله - ما أسألكم عليه من أجر إلا من شاء أن يتخذ إلى ربه سبيلا -. ثم بين لهم أن أجره عند الله سبحانه فقال (إن أجري إلا على الله) أي ما أجري إلا على الله لا على غيره (وهو على كل شئ شهيد) أي مطلع لا يغيب عنه منه شئ (قل إن ربي يقذف بالحق) القذف الرمي بالسهم والحصى والكلام. قال الكلبي: يرمى على معنى يأتي به، وقال مقاتل:
يتكلم بالحق وهو القرآن والوحي: أي يلقيه إلى أنبيائه. وقال قتادة (بالحق) أي بالوحي، والمعنى: أنه يبين الحجة ويظهرها للناس على ألسن رسله، وقيل يرمي الباطل بالحق فيدمغه (علام الغيوب) قرأ الجمهور برفع " علام " على أنه خبر ثان لأن، أو خبر مبتدأ محذوف، أو بدل من الضمير في يقذف، أو معطوف على محل اسم إن. قال الزجاج: الرفع من وجهين على الموضع، لأن الموضع موضع رفع، أو على البدل. وقرأ زيد بن علي وعيسى بن عمر وابن أبي إسحاق بالنصب نعتا لاسم إن، أو بدلا منه، أو على المدح. قال الفراء: والرفع في مثل هذا أكثر كقوله - إن ذلك لحق تخاصم أهل النار -، وقرئ الغيوب بالحركات الثلاث في الغين، وهو جمع غيب، والغيب هو الأمر الذي غاب وخفى جدا (قل جاء الحق) أي الإسلام والتوحيد. وقال قتادة: القرآن.
وقال النحاس: التقدير صاحب الحق: أي الكتاب الذي فيه البراهين والحجج.