وفي هذه الآية عتاب للمتخلفين عن القتال مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أي لقد كان لكم في رسول الله حيث بذل نفسه للقتال وخرج إلى الخندق لنصرة دين الله أسوة، وهذه الآية وإن كان سببها خاصا فهي عامة في كل شئ، ومثلها - ما أتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا -، وقوله - قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله -، واللام في (لمن كان يرجوا الله واليوم الآخر) متعلق بحسنة، أو بمحذوف هو صفة لحسنة: أي كائنة لمن يرجو الله. وقيل إن الجملة بدل من الكاف في لكم، ورده أبو حيان وقال: إنه لا يبدل من ضمير المخاطب بإعادة الجار. ويجاب عنه بأنه قد أجاز ذلك الكوفيون والأخفش وإن منعه البصريون، والمراد بمن كان يرجو الله: المؤمنون، فإنهم الذين يرجون الله ويخافون عذابه، ومعنى يرجون الله: يرجون ثوابه أو لقاءه، ومعنى يرجون اليوم الآخر: أنهم يرجون رحمة الله فيه أو يصدقون بحصوله وأنه كائن لا محالة، وهذه الجملة تخصيص بعد التعميم بالجملة الأولى (وذكر الله كثيرا) معطوف على كان: أي ولمن ذكر الله في جميع أحواله ذكرا كثيرا، وجمع بين الرجاء لله والذكر له، فإن بذلك تتحقق الأسوة الحسنة برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. ثم بين سبحانه ما وقع من المؤمنين المخلصين عند رؤيتهم للأحزاب ومشاهدتهم لتلك الجيوش التي أحاطت بهم كالبحر العباب فقال (ولما رأى المؤمنون الأحزاب قالوا هذا ما وعدنا الله ورسوله) الإشارة بقوله " هذا " إلى ما رأوه من الجيوش، أو إلى الخطب الذي نزل والبلاء الذي دهم، وهذا القول منهم قالوه استبشارا بحصول ما وعدهم الله ورسوله من مجيء هذه الجنود، وإنه يتعقب مجيئهم إليهم نزول النصر والظفر من عند الله، و " ما " في " ما وعدنا الله " هي الموصولة، أو المصدرية، ثم أردفوا ما قالوه بقولهم (صدق الله ورسوله) أي ظهر صدق خبر الله ورسوله (وما زادهم إلا إيمانا وتسليما) أي ما زادهم ما رأوه إلا إيمانا بالله وتسليما لأمره. قال الفراء: ما زادهم النظر إلى الأحزاب إلا إيمانا وتسليما. قال علي بن سليمان: " رأى " يدل على الرؤية وتأنيث الرؤية غير حقيقي، والمعنى:
ما زادهم الرؤية إلا إيمانا للرب وتسليما للقضاء، ولو قال ما زادتهم لجاز (من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه) أي من المؤمنين المخلصين رجال صدقوا أتوا بالصدق، من صدقني إذا قال الصدق، ومحل " ما عاهدوا الله عليه " النصب بنزع الخافض، والمعنى: أنهم وفوا بما عاهدوا عليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ليلة العقبة من الثبات معه، والمقاتلة لمن قاتله، بخلاف من كذب في عهده وخان الله ورسوله وهم المنافقون، وقيل هم الذين نذروا أنهم إذا لقوا حربا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ثبتوا له ولم يفروا، ووجه إظهار الاسم الشريف، والرسول في قوله (صدق الله ورسوله) بعد قوله (ما وعد الله ورسوله) هو قصد التعظيم كما في قول الشاعر: * أرى الموت لا يسبق الموت شئ * وأيضا لو أضمرهما لجمع بين ضمير الله وضمير رسوله في لفظ واحد. وقال صدقا، وقد ورد النهي عن جمعهما كما في حديث " بئس خطيب القوم أنت " لمن قال ومن يعصها فقد غوى. ثم فصل سبحانه حال الصادقين بما وعدوا الله ورسوله وقسمهم إلى قسمين فقال (فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر) النحب: ما التزمه الإنسان وأعتقد الوفاء به. ومنه قول الشاعر:
عشية فر الحارثيون بعد ما * قضى نحبه في ملتقى القوم هوبر وقال الآخر: بطخفة لا جالدنا الملوك وخيلنا * عشية بسطام جرين على نحب أي على أمر عظيم، والنحب يطلق على النذر والقتل والموت. قال ابن قتيبة: قضى نحبه: أي قتل وأصل النحب النذر. كانوا يوم بدر نذورا إن لقوا العدو أن يقاتلوا حتى يقتلوا أو يفتح لهم فقتلوا، فقيل فلان قضى