إلا الهرب من القتال، وقيل المراد: ما يريدون إلا الفرار من الدين (ولو دخلت عليهم من أقطارها) يعني بيوتهم أو المدينة، والأقطار: النواحي جمع قطر، وهو الجانب والناحية، والمعنى: لو دخلت عليهم بيوتهم أو المدينة من جوانبها جميعا لا من بعضها، ونزلت بهم هذه النازلة الشديدة، واستبيحت ديارهم، وهتكت حرمهم ومنازلهم (ثم سئلوا الفتنة) من جهة أخرى عند نزول هذه النازلة الشديدة بهم (لآتوها) أي لجاؤوها أو أعطوها، ومعنى الفتنة هنا: إما القتال في العصبية كما قال الضحاك، أو الشرك بالله والرجعة إلى الكفر الذي يبطنونه ويظهرون خلافه كما قال الحسن. قرأ الجمهور لآتوها بالمد: أي لأعطوها من أنفسهم، وقرأ نافع وابن كثير بالقصر:
أي لجاؤوها (وما تلبثوا بها إلا يسيرا) أي بالمدينة بعد أن أتوا الفتنة إلا تلبثا يسيرا حتى يهلكوا، كذا قال الحسن والسدي والفراء والقتيبي. وقال أكثر المفسرين: إن المعنى: وما احتبسوا عن فتنة الشرك إلا قليلا، بل هم مسرعون إليها راغبون فيها لا يقفون عنها إلا مجرد وقوع السؤال لهم، ولا يتعللون عن الإجابة بأن بيوتهم في هذه الحالة عورة مع أنها قد صارت عورة على الحقيقة كما تعللوا عن إجابة الرسول والقتال معه بأنها عورة ولم تكن إذ ذاك عورة. ثم حكى الله سبحانه عنهم ما قد كان وقع منهم من قبل من المعاهدة لله ولرسوله بالثبات في الحرب وعدم الفرار عنه فقال (ولقد كانوا عاهدوا الله من قبل لا يولون الأدبار) أي من قبل غزوة الخندق ومن بعد بدر قال قتادة: وذلك أنهم غابوا عن بدر ورأوا ما أعطى الله أهل بدر من الكرامة والنصر فقالوا: لئن أشهدنا الله قتالا لنقاتلن، وهم بنو حارثة وبنو سلمة (وكان عهد الله مسؤولا) أي مسؤولا عنه، ومطلوبا صاحبه بالوفاء به، ومجازي على ترك الوفاء به (قل لن ينفعكم الفرار إن فررتم من الموت أو القتل) فإن من حضر أجله مات أو قتل فر أو لم يفر (وإذا لا تمتعون إلا قليلا) أي تمتعا قليلا أو زمانا قليلا بعد فرارهم إلى أن تنقضي آجالهم، وكل ما هو آت فهو قريب. قرأ الجمهور " تمتعون " بالفوقية، وقرأ يعقوب الحضرمي في رواية الساجي عنه بالتحتية، وفى بعض الروايات " لا تمتعوا " بحذف النون إعمالا لإذن، وعلى قراءة الجمهور هي ملغاة (قل من ذا الذي يعصمكم من الله إن أراد بكم سوءا) أي هلاكا أو نقصا في الأموال وجدبا ومرضا (أو أراد بكم رحمة) يرحمكم بها من خصب ونصر وعافية (ولا يجدون لهم من دون الله وليا) يواليهم ويدفع عنهم (ولا نصيرا) ينصرهم من عذاب الله.
وقد أخرج الطبراني وابن مردويه وأبو نعيم في الدلائل عن أبي مريم الغساني أن أعرابيا قال: يا رسول الله أي شئ كان أول نبوتك؟ قال: أخذ الله مني الميثاق كما أخذ من النبيين ميثاقهم، ثم تلا (وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ابن مريم وأخذنا منهم ميثاقا غليظا) ودعوة إبراهيم قال - وابعث فيهم رسولا منهم -، وبشرى عيسى ابن مريم، ورأت أم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في منامها أنه خرج من بين رجليها سراج أضاءت له قصور الشام. وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال " قيل يا رسول الله متى أخذ ميثاقك؟ قال: وآدم بين الروح والجسد ". وأخرج البزار والطبراني في الأوسط وأبو نعيم في الدلائل عنه قال " قيل يا رسول الله متى كنت نبيا؟ قال: وآدم بين الروح والجسد ". وفي الباب أحاديث قد صحح بعضها.
وأخرج الحسن بن سفيان وابن أبي حاتم وابن مردويه وأبو نعيم في الدلائل والديلمي وابن عساكر من طريق قتادة عن الحسن عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في قوله (وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم) الآية قال:
كنت أول النبيين في الخلق وآخرهم في البعث، فبدأ به قبلهم. وأخرج ابن أبي حاتم من طريق الضحاك عن ابن عباس قال (ميثاقهم) عهدهم. وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني بسند صحيح عن ابن عباس (وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم) قال: إنما أخذ الله ميثاق النبيين على قومهم. وأخرج الحاكم وصححه