والتقدير: فذهب الهدهد فألقاه إليهم، فسمعها تقول: يا أيها الملأ الخ، ووصفت الكتاب بالكريم لكونه من عند عظيم في نفسها فعظمته إجلالا لسليمان، وقيل وصفته بذلك لاشتماله على كلام حسن، وقيل وصفته بذلك لكونه وصل إليها مختوما بخاتم سليمان، وكرامة الكتاب ختمه كما روي ذلك مرفوعا، ثم بينت ما تضمنه هذا الكتاب فقالت (إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم) أي وإن ما اشتمل عليه من الكلام وتضمنه من القول مفتتح بالتسمية وبعد التسمية (أن لا تعلوا علي) أي لا تتكبروا كما يفعله جبابرة الملوك، وأن هي المفسرة، وقيل مصدرية، ولا ناهية، وقيل نافية، ومحل الجملة الرفع على أنها بدل من كتاب أو خبر مبتدأ محذوف: أي هو أن لا تعلوا. قرأ الجمهور " إنه من سليمان وإنه " بكسرهما على الاستئناف، وقرأ عكرمة وابن أبي عبلة بفتحهما على إسقاط حرف الجر، وقرأ أبي " إن من سليمان وإن بسم الله " بحذف الضميرين وإسكان النونين على أنهما مفسرتان، وقرأ عبد الله بن مسعود " وإنه من سليمان " بزيادة الواو، وروى ذلك أيضا عن أبي. وقرأ أشهب العقيلي وابن السميفع " أن لا تغلوا " بالغين المعجمة من الغلو، وهو تجاوز الحد في الكبر (وأتوني مسلمين) أي منقادين للذين مؤمنين بما جئت به (قالت يا أيها الملأ أفتوني في أمري) الملأ أشراف القوم، والمعنى يا أيها الأشراف أشيروا علي وبينوا لي الصواب في هذا الأمر وأجيبوني بما يقتضيه الحزم، وعبرت عن المشورة بالفتوى لكون في ذلك حل لما أشكل من الأمر عليها، وفي الكلام حذف، والتقدير: فلما قرأت بلقيس الكتاب جمعت أشراف قومها وقالت لهم: يا أيها الملأ إني ألقى إلي، يا أيها الملأ أفتوني، وكرر قالت لمزيد العناية بما قالته لهم، ثم زادت في التأدب واستجلاب خواطرهم ليمحضوها النصح ويشيروا عليها بالصواب فقالت (ما كنت قاطعة أمرا حتى تشهدون) أي ما كنت مبرمة أمرا من الأمور حتى تحضروا عندي وتشيروا علي، ف (قالوا) مجيبين لها (نحن أولوا قوة) في العدد والعدة (وأولوا بأس شديد) عند الحرب واللقاء لنا من الشجاعة والنجدة ما نمنع به أنفسنا وبلدنا ومملكتنا، ثم فوضوا الأمر إليها لعلمهم بصحة رأيها وقوة عقلها فقالوا (والأمر إليك) أي موكول إلى رأيك ونظرك (فانظري ماذا تأمرين) أي تأملي ماذا تأمرينا به فنحن سامعون لأمرك مطيعون له، فلما سمعت تفويضهم الأمر إليها (قالت:
إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها) أي إذا دخلوا قرية من القرى خربوا مبانيها، وغيروا مغانيها، وأتلفوا أموالها، وفرقوا شمل أهلها (وجعلوا أعزة أهلها أذلة) أي أهانوا أشرافها وحطوا مراتبهم، فصاروا عند ذلك أذلة وإنما يفعلون ذلك لأجل أن يتم لهم الملك وتستحكم لهم الوطأة وتتقرر لهم في قلوبهم المهابة. قال الزجاج: أي إذا دخلوها عنوة عن قتال وغلبة، والمقصود من قولها هذا تحذير قومها من مسير سليمان إليهم ودخوله بلادهم، وقد صدقها الله سبحانه فيما قالت فقال سبحانه (وكذلك يفعلون) أي مثل ذلك الفعل يفعلون. قال ابن الأنباري:
الوقف على قوله (وجعلوا أعزة أهلها أذلة) وقف تام، فقال الله عز وجل تحقيقا لقولها (وكذلك يفعلون) وقيل هذه الجملة من تمام كلامها، فتكون من جملة مقول قولها، وعلى القول الأول تكون هذه الجملة مستأنفة لا محل لها من الإعراب. ثم لما قدمت لهم هذه المقدمة، وبينت لهم ما في دخول الملوك إلى أرضهم من المفسدة، أوضحت لهم وجه الرأي عندها وصرحت لهم بصوابه فقالت (وإني مرسلة إليهم بهدية) أي إني أجرب هذا الرجل بإرسال رسلي إليه بهدية مشتملة على نفائس الأموال، فإن كان ملكا أرضيناه بذلك وكفينا أمره، وإن كان نبيا لم يرضه ذلك، لأن غاية مطلبه ومنتهى أربه هو الدعاء إلى الدين فلا ينجينا منه إلا إجابته ومتابعته والتدين بدينه وسلوك طريقته، ولهذا قالت (فناظرة بم يرجع المرسلون) الفاء للعطف على مرسلة، وبم متعلق بيرجع، والمعنى: إني ناظرة فيما يرجع به رسلي المرسلون بالهدية من قبول أو رد فعاملة بما يقتضيه ذلك، وقد طول المفسرون في ذكر