هذه الهدية، وسيأتي في آخر البحث بيان ما هو أقرب ما قيل إلى الصواب والصحة (فلما جاء سليمان) أي فلما جاء رسولها المرسل بالهدية سليمان، والمراد بهذا المضمر الجنس فلا ينافي كونهم جماعة كما يدل عليه قولها: " بم يرجع المرسلون " وقرأ عبد الله " فلما جاءوا سليمان " أي الرسل، وجملة (قال أتمدونن بمال) مستأنفة جواب سؤال مقدر والاستفهام للإستنكار: أي قال منكرا لإمدادهم له بالمال مع علو سلطانه وكثرة ماله. وقرأ حمزة بإدغام نون الإعراب في نون الوقاية، والباقون بنونين من غير إدغام، وأما الياء فإن نافعا وأبا عمرو وحمزة يثبتونها وصلا ويحذفونها وقفا، وابن كثير يثبتها في الحالين، والباقون يحذفونها في الحالين. وروي عن نافع أن يقرأ بنون واحدة (فما آتاني الله خير مما آتاكم) أي ما آتاني من النبوة والملك العظيم والأموال الكثيرة خير مما آتاكم من المال الذي هذه الهدية من جملته. قرأ أبو عمرو ونافع وحفص " آتاني الله " بياء مفتوحة وقرأ يعقوب بإثباتها في الوقف وحذفها في الوصل، وقرأ الباقون بغير ياء في الوصل والوقف. ثم إنه أضرب عن الإنكار المتقدم فقال (بل أنتم بهديتكم تفرحون) توبيخا لهم بفرحهم بهذه الهدية فرح فخر وخيلاء، وأما أنا فلا أفرح بها وليست الدنيا من حاجتي، لأن الله سبحانه قد أعطاني منها ما لم يعطه أحدا من العالمين، ومع ذلك أكرمني بالنبوة. والمراد بهذا الإضراب من سليمان بيان السبب الحامل لهم على الهدية مع الإزراء بهم والحط عليهم (ارجع إليهم فلنأتينهم بجنود لا قبل لهم بها) أي قال سليمان للرسول: ارجع إليهم: أي إلى بلقيس وقومها، وخاطب المفرد هاهنا بعد خطابه للجماعة فيما قبل، إما لأن الذي سيرجع هو الرسول فقط، أو خص أمير الرسل بالخطاب هنا وخاطبهم معه فيما سبق افتنانا في الكلام.
وقرأ عبد الله بن عباس " ارجعوا " وقيل إن الضمير يرجع إلى الهدهد، واللام في لنأتينهم جواب قسم محذوف.
قال النحاس: وسمعت ابن كيسان يقول: هي لام توكيد ولام أمر ولام خفض، وهذا قول الحذاق من النحويين لأنهم يردون الشئ إلى أصله، وهذا لا يتهيأ إلا لمن درب في العربية، ومعنى " لا قبل لهم ": لا طاقة لهم بها، والجملة في محل جر صفة لجنود (ولنخرجنهم) معطوف على جواب القسم: أي لنخرجنهم من أرضهم التي هم فيها (أذلة) أي حال كونهم أذلة بعد ما كانوا أعزة، وجملة (وهم صاغرون) في محل نصب على الحال، قيل وهي حال مؤكدة لأن الصغار هو الذلة، وقيل إن المراد بالصغار هنا الأسر والاستعباد، وقيل إن الصغار الإهانة التي تسبب عنها الذلة. ولما رجع الرسول إلى بلقيس تجهزت للمسير إلى سليمان، وأخبر جبريل سليمان بذلك ف (قال) سليمان (يا أيها الملأ أيكم يأتيني بعرشها) أي عرش بلقيس الذي تقدم وصفه بالعظم (قيل أن يأتوني مسلمين) أي قبل أن تأتيني هي وقومها مسلمين. قيل إنما أراد سليمان أخذ عرشها قبل أن يصلوا إليه ويسلموا، لأنها إذا أسلمت وأسلم قومها لم يحل أخذ أموالهم بغير رضاهم. قال ابن عطية: وظاهر الروايات أن هذه المقالة من سليمان هي بعد مجيء هديتها ورده إياها وبعثه الهدهد بالكتاب، وعلى هذا جمهور المتأولين. وقيل استدعاء العرش قبل وصولها ليريها القدرة التي هي من عند الله ويجعله دليلا على نبوته، وقيل أراد أن يختبر عقلها ولهذا (قال نكروا لها عرشها) الخ، وقيل أراد أن يختبر صدق الهدهد في وصفه للعرش بالعظم، والقول الأول هو الذي عليه الأكثر (قال عفريت من الجن أنا آتيك به قبل أن تقوم من مقامك) قرأ الجمهور بكسر العين وسكون الفاء وكسر الراء وسكون المثناة التحتية وبالتاء، وقرأ أبو رجاء وعيسى الثقفي وابن السميفع وأبو السمال " عفريه " بفتح التحتية بعدها تاء تأنيث منقلبة هاء رويت هذه القراءة عن أبي بكر الصديق. وقرأ أبو حيان بفتح العين. والعفريت المارد الغليظ الشديد. قال النحاس: يقال للشديد إذا كان معه خبث ودهاء عفر وعفرية وعفريت، وقال قتادة: هو الداهية، وقيل هو رئيس الجن. قال ابن عطية: وقرأت فرقة " عفر " بكسر العين جمعه على عفار، ومما ورد من أشعار العرب مطابقا لقراءة الجمهور ما أنشده الكسائي