لما فرغ سبحانه من ذكر ما طعنوا به على القرآن ذكر ما طعنوا به على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال (وقالوا مال هذا الرسول) وفى الإشارة هنا تصغير لشأن المشار إليه وهو رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وسموه رسولا استهزاء وسخرية (يأكل الطعام ويمشي في الأسواق) أي ما باله يأكل الطعام كما نأكل ويتردد في الأسواق لطلب المعاش كما نتردد، وزعموا أنه كان يجب أن يكون ملكا مستغنيا عن الطعام والكسب، وما الاستفهامية في محل رفع على الابتداء، والاستفهام للاستنكار، وخبر المبتدأ لهذا الرسول، وجملة يأكل في محل نصب على الحال، وبها تتم فائدة الإخبار كقوله - فما لهم عن التذكرة معرضين - والإنكار متوجه إلى السبب مع تحقق المسبب، وهو الأكل والمشي، ولكنه استبعد تحقق ذلك لانتفاء سببه عندهم تهكما واستهزاء. والمعنى: أنه إن صح ما يدعيه من النبوة فما باله لم يخالف حاله حالنا (لولا أنزل إليه ملك فيكون معه نذيرا) طلبوا أن يكون النبي صلى الله عليه وآله وسلم مصحوبا بملك يعضده ويساعده، تنزلوا عن اقتراح أن يكون الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ملكا مستغنيا عن الأكل والكسب، إلى اقتراح أن يكون معه ملك يصدقه ويشهد له بالرسالة. قرأ الجمهور " فيكون " بالنصب على كونه جواب التحضيض. وقرئ " فيكون " بالرفع على أنه معطوف على أنزل، وجاز عطفه على الماضي لأن المراد به المستقبل (أو يلقى إليه كنز) معطوف على أنزل، ولا يجوز عطفه على فيكون، والمعنى: أو هلا يلقى إليه كنز، تنزلوا من مرتبة نزول الملك معه إلى اقتراح أن يكون معه كنز يلقى إليه من السماء ليستغني به عن طلب الرزق (أو تكون له جنة يأكل منها) قرأ الجمهور " تكون " بالمثناة الفوقية، وقرأ الأعمش وقتادة " يكون " بالتحتية، لأن تأنيث الجنة غير حقيقي. وقرأ " نأكل " بالنون حمزة وعلي وخلف، وقرأ الباقون " يأكل " بالمثناة التحتية: أي بستان نأكل نحن من ثماره، أو يأكل هو وحده منه ليكون له بذلك مزية علينا حيث يكون أكله من جنته. قال النحاس: والقراءتان حسنتان وإن كانت القراءة بالياء أبين، لأنه قد تقدم ذكر النبي صلى الله عليه وآله وسلم وحده، فعود الضمير إليه بين (وقال الظالمون إن تتبعون إلا رجلا مسحورا) المراد بالظالمون هنا هم القائلون بالمقالات الأولى، وإنما وضع الظاهر موضع المضمر مع الوصف بالظلم للتسجيل عليهم به: أي ما تتبعون إلا رجلا مغلوبا على عقله بالسحر، وقيل ذا سحر، وهي الرئة: أي بشرا له رئة لا ملكا، وقد تقدم بيان مثل هذا في سبحان (انظر كيف ضربوا لك الأمثال) ليتوصلوا بها إلى تكذيبك، والأمثال هي الأقوال النادرة والاقتراحات الغريبة، وهي ما ذكروه هاهنا (فضلوا) عن الصواب فلا يجدون طريقا إليه ولا وصلوا إلى شئ منه، بل جاءوا بهذه المقالات الزائفة التي لا تصدر عن أدنى العقلاء وأقلهم تمييزا ولهذا قال (فلا يستطيعون سبيلا) أي لا يجدون إلى القدح في نبوة هذا النبي طريقا من الطرق (تبارك الذي إن شاء جعل لك خيرا من ذلك) أي تكاثر خير الذي إن شاء جعل لك في الدنيا معجلا خيرا من ذلك الذي اقترحوه. ثم فسر الخير فقال (جنات تجري من تحتها الأنهار) فجنات بدل من خيرا (ويجعل لك قصورا) معطوف على موضع جعل، وهو الجزم، وبالجزم قرأ الجمهور. وقرأ ابن كثير وابن عامر وأبو بكر برفع " يجعل " على أنه مستأنف، وقد تقرر في علم الإعراب أن الشرط إذا كان ماضيا جاز في جوابه الجزم والرفع فجاز أن يكون جعل هاهنا في محل جزم ورفع
(٦٣)