(وما كنت من الشاهدين) لذلك حتى تقف على حقيقته وتحكيه من جهة نفسك. وإذا تقرر أن الوقوف على تفاصيل تلك الأحوال لا يمكن أن يكون بالحضور عندها من نبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم والمشاهدة لها منه.
وانتفى بالأدلة الصحيحة أنه لم يتلق ذلك من غيره من البشر ولا علمه معلم منهم كما قدمنا تقريره تبين أنه من عند الله سبحانه بوحي منه إلى رسوله بواسطة الملك النازل بذلك، فهذا الكلام هو على طريقة - وما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم - وقيل معنى (إذ قضينا إلى موسى الأمر) إذ كلفناه وألزمناه، وقيل أخبرناه أن أمة محمد خير الأمم، ولا يستلزم نفي كونه بجانب الغربي نفي كونه من الشاهدين، لأنه يجوز أن يحضر ولا يشهد.
قيل المراد بالشاهدين السبعون الذين اختارهم موسى للميقات (ولكنا أنشأنا قرونا) أي خلقنا أمما بين زمانك يا محمد وزمان موسى (فتطاول عليهم العمر) طالت عليهم المهلة وتمادى عليهم الأمد فتغيرت الشرائع والأحكام وتنوسيت الأديان فتركوا أمر الله ونسوا عهده، ومثله قوله سبحانه - فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم -، وقد استدل بهذا الكلام على أن الله سبحانه قد عهد إلى موسى عهدوا في محمد صلى الله عليه وآله وسلم وفي الإيمان به فلما طال عليهم العمر ومضت القرون بعد القرون نسوا تلك العهود وتركوا الوفاء بها (وما كنت ثاويا في أهل مدن) أي مقيما بينهم كما أقام موسى حتى تقرأ على أهل مكة خبرهم وتقص عليهم من جهة نفسك يقال ثوى يثوي ثواء وثويا فهو ثاو. قال ذو الرمة:
لقد كان في حول ثواء ثويته * نقضي لبانات ويسأم سائم وقال العجاج: * فبات حيث يدخل الثوى * يعني الضيف المقيم، وقال آخر: * طال الثواء على رسول المنزل * (تتلوا عليهم آياتنا) اي تقرأ على أهل مدين آياتنا وتتعلم منهم، وقيل تذكرهم بالوعد والوعيد، والجملة في محل نصب على الحال أو خبر ثان، ويجوز أن تكون هذه الجملة هي الخبر وثاويا حال. وجعلها الفراء مستأنفة كأنه قيل وها أنت تتلو على أمتك (ولكنا كنا مرسلين) أي أرسلناك إلى أهل مكة وأنزلنا عليك هذه الأخبار ولولا ذلك لما علمتها. قال الزجاج: المعنى أنك لم تشاهد قصص الأنبياء ولا تليت عليك، ولكنا أوحيناها إليك وقصصناها عليك (وما كنت بجانب الطور إذ نادينا) أي وما كنت يا محمد بجانب الجبل المسمى بالطور إذ نادينا موسى لما أتى إلى الميقات مع السبعين. وقيل المنادي هو أمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم. قال وهب: وذلك أن موسى لما ذكر الله له فضل محمد وأمته قال: يا رب أرنيهم، فقال الله: إنك لن تدركهم وإن شئت ناديتهم فأسمعتك صوتهم، قال: بلى يا رب، فقال الله: يا أمة محمد، فأجابوا من أصلاب آبائهم. فيكون معنى الآية على هذا: ما كنت يا محمد بجانب الطور إذ كلمنا موسى فنادينا أمتك، وسيأتي ما يدل على هذا ويقويه ويرجحه في آخر البحث إن شاء الله (ولكن رحمة من ربك) أي ولكن فعلنا ذلك رحمة منا بكم، وقيل ولكن أرسلنا بالقرآن رحمة لكم، وقيل علمناك، وقيل عرفناك. قال الأخفش: هو منصوب: يعني رحمة على المصدر: أي ولكن رحمناك رحمة. وقال الزجاج: هو مفعول من أجله: أي فعلنا ذلك بك لأجل الرحمة. قال النحاس: أي لم تشهد قصص الأنبياء ولا تليت عليك ولكن بعثناك وأوحيناها إليك للرحمة. وقال الكسائي: هو خبر لكان مقدرة: أي ولكن كان ذلك رحمة، وقرأ عيسى بن عمر وأبو حيوة رحمة بالرفع على تقدير: ولكن أنت رحمة. وقال الكسائي: الرفع على أنها اسم كان المقدرة، وهو بعيد إلا على تقدير أنها تامة، واللام في (لتنذر قوما ما أتاهم من نذير من قبلك) متعلق بالفعل المقدر على الاختلاف في تقديره، والقوم هم أهل مكة، فإنه لم يأتهم نذير ينذرهم قبله صلى الله عليه وآله وسلم. وجملة " ما أتاهم " الخ صفة لقوما (لعلهم يتذكرون)