استفرغ جهده لقصر في غيره فالأولى الاقتصاد فيه ليستبقى بعض القوة لغيره وقد أشير إلى ذلك بقوله عليه الصلاة والسلام في داود عليه السلام وكان لا يفر إذا لاقي لأنه كان يتقوى بالفطر لأجل الجهاد (قوله قال عطاء) أي بالاسناد المذكور (قوله لا أدرى كيف ذكر صيام الأبد الخ) أي ان عطاء لم يحفظ كيف جاء ذكر صيام الأبد في هذه القصة الا انه حفظ ان فيها أنه صلى الله عليه وسلم قال لا صام من صام الأبد وقد روى أحمد والنسائي هذه الجملة وحدها من طريق عطاء وسيأتى بعد باب بلفظ لا صام من صام الدهر (قوله لا صام من صام الأبد مرتين) في رواية مسلم قال عطاء فلا أدرى كيف ذكر صيام الأبد فقال النبي صلى الله عليه وسلم لا صام من صام الأبد لا صام من صام الأبد واستدل بهذا على كراهية صوم الدهر قال ابن التين استدل على كراهته من هذه القصة من أوجه نهيه صلى الله عليه وسلم عن الزيادة وأمره بان يصوم ويفطر وقوله لا أفضل من ذلك ودعاؤه على من صام الأبد وقيل معنى قوله لا صام النفي أي ما صام كقوله تعالى فلا صدق ولا صلى وقوله في حديث أبي قتادة عند مسلم وقد سئل عن صوم الدهر لا صام ولا أفطر أو ما صام وما أفطر وفى رواية الترمذي لم يصم ولم يفطر وهو شك من أحد رواته ومقتضاه أنهما بمعنى واحد والمعنى بالنفي أنه لم يحصل أجر الصوم لمخالفته ولم يفطر لأنه أمسك والى كراهة صوم الدهر مطلقا ذهب اسحق وأهل الظاهر وهى رواية عن أحمد وشذ ابن حزم فقال يحرم وروى ابن أبي شيبة باسناد صحيح عن ابن عمرو الشيباني قال بلغ عمر أن رجلا يصوم الدهر فاتاه فعلاه بالدرة وجعل يقول كل يا دهري ومن طريق أبى اسحق ان عبد الرحمن بن أبي نعيم كان يصوم الدهر فقال عمرو بن ميمون لو رأى هذا أصحاب محمد لرجموه واحتجوا أيضا بحديث أبى موسى رفعه من صام الدهر ضيقت عليه جهنم وعقد بيده أخرجه أحمد والنسائي وابن خزيمة وابن حبان وظاهره انها تضيق عليه حصرا له فيها لتشديده على نفسه وحمله عليها ورغبه عن سنة نبيه صلى الله عليه وسلم واعتقاده ان غير سنته أفضل منها وهذا يقتضى الوعيد الشديد فيكون حراما والى الكراهة مطلقا ذهب ابن العربي من المالكية فقال قوله لا صام من صام الأبد إن كان معناه الدعاء فيا ويح من أصابه دعاء النبي صلى الله عليه وسلم وإن كان معناه الخبر فيا ويح من أخبر عنه النبي صلى الله عليه وسلم انه لم يصم وإذا لم يصم شرعا لم يكتب له الثواب لوجوب صدق قوله صلى الله عليه وسلم لأنه نفى عنه الصوم وقد نفى عنه الفضل كما تقدم فكيف يطلب الفضل فما نفاه النبي صلى الله عليه وسلم وذهب آخرون إلى جواز صيام الدهر وحملوا أخبار النهى على من صامه حقيقة فإنه يدخل فيه ما حرم صومه كالعيدين وهذا اختيار ابن المنذر وطائفة وروى عن عائشة نحوه وفيه نظر لأنه صلى الله عليه وسلم قد قال جوابا لمن سأله عن صوم الدهر لا صام ولا أفطر وهو يؤذن بأنه ما أجر ولا أثم ومن صام الأيام المحرمة لا يقال فيه ذلك لأنه عند من أجاز صوم الدهر الا الأيام المحرمة يكون قد فعل مستحبا وحراما وأيضا فان أيام التحريم مستثناة بالشرع غير قابلة للصوم شرعا فهي بمنزلة الليل وأيام الحيض فلم تدخل في السؤال عند من علم تحريمها ولا يصلح الجواب بقوله لا صام ولا أفطر لمن لم يعلم تحريمها وذهب آخرون إلى استحباب صيام الدهر لمن قوى عليه ولم يفوت فيه حقا والى ذلك ذهب الجمهور قال السبكي أطلق أصحابنا كراهة صوم الدهر لمن فوت حقا ولم يوضحوا هل المراد الحق الواجب أو المندوب ويتجه أن يقال إن علم أنه
(١٩٣)