ومضى أصحاب الرأي قدما بعد أن وطدوا الأمور لأنفسهم، ومرة ثانية قدم أهل البيت الكرام الأهم على المهم فعارضوا برفق إشفاقا على الملة.
وفي ظلال السلطة وأمام معارضة أهل البيت: وتمسكهم بالشرعية، فقدت السلطة ثقتها بهم، فقدمت اللاحق على السابق، وقدمت الطليق على المهاجر، والأبعد على الأقرب، فقويت شوكة السلطة، والتف المنتفعون بها حولها، وبنفس الحجم والمقدار ضعف أهل البيت وانفض الناس من حولهم، وساعد على ذلك أن الله تعالى قد أذهب الرجس عن أهل البيت، فهم لا يطلبون النصر بالجور، ولا يطمعون بالحكم إلا بالشرع وبوسائله.
ما حال بين رسول الله وكتابة ما أراد هو الغلبة، وما نحى أهل البيت عن حقهم بقيادة الأمة إلا الغلبة، وما قدم الأبعد على الأقرب والطليق على المهاجر إلا بحكم الغلبة، لكنها غلبة غير مكشوفة، وغلبة منظمة حتى كشرت الغلبة عن أنيابها وظهرت على حقيقتها، وأدرك معاوية بن أبي سفيان أن الأمر لمن غلب.
وأدركت الأمة أو الأكثرية الساحقة من الأمة أن مصلحتها تتحقق بوقوفها مع الغالب، فوقفت مع الدنيا المقبلة العاجلة، وتركت الآخرة المدبرة الآجلة.
ومن ذلك التاريخ ومنذ انتصار القوة على الشرعية، أطاعت الأمة من غلب، وترسخ انتصار الرأي واندحار الشرعية، فالسلطة رفعت دائما شعار الرأي الذي سمي بالاجتهاد في ما بعد، ورفعت شعار الشرعية بالقدر الذي يزين رأيها ويضفي عليه الشرعية، أو يساهم بخلق القناعة فيه، وذلك محافظة منها على السلطة ووحدة السلطة، لاقتناعها أن وحدة السلطة هي التعبير الحقيقي عن وحدة الأمة.
ومن هنا وعلى ضوئه تجد التفسير الحقيقي والمنطقي لكل تصرف قامت به السلطة السياسية طوال التاريخ. راجع كتابنا نظرية عدالة الصحابة والمرجعية السياسية في الإسلام - الباب الثاني.
أما أهل البيت الكرام فالشرعية مطلبهم، والشرعية المطلقة غايتهم.