وقد اختلف أهل العلم في هذا الاستثناء هل يرجع إلى الجملتين قبله؟ وهي جملة عدم قبول الشهادة، وجملة الحكم عليهم بالفسق، أم إلى الجملة الأخيرة؟ وهذا الاختلاف بعد اتفاقهم على أنه لا يعود إلى جملة الجلد بل يجلد التائب كالمصر، وبعد إجماعهم أيضا على أن هذا الاستثناء يرجع إلى جملة الحكم بالفسق فمحل الخلاف هل يرجع إلى جملة عدم قبول الشهادة أم لا؟ فقال الجمهور: إن هذا الاستثناء يرجع إلى الجملتين، فإذا تاب القاذف قبلت شهادته وزال عنه الفسق، لأن سبب ردها هو ما كان متصفا به من الفسق بسبب القذف، فإذا زال بالتوبة بالإجماع كان الشهادة مقبولة. وقال القاضي شريح وإبراهيم النخعي والحسن البصري وسعيد بن جبير ومكحول وعبد الرحمن بن زيد وسفيان الثوري وأبو حنيفة: إن هذا الاستثناء يعود إلى جملة الحكم بالفسق، لا إلى جملة عدم قبول الشهادة فيرتفع بالتوبة عن القاذف وصف الفسق ولا تقبل شهادته أبدا. وذهب الشعبي والضحاك إلى التفصيل فقالا: لا تقبل شهادته وإن تاب إلا أن يعترف على نفسه بأنه قد قال البهتان، فحينئذ تقبل شهادته. وقول الجمهور هو الحق، لأن تخصيص التقييد بالجملة الأخيرة دون ما قبلها مع كون الكلام واحدا في واقعة شرعية من متكلم واحد خلاف ما تقتضيه لغة العرب، وأولوية الجملة الأخيرة المتصلة بالقيد بكونه قيدا لها لا تنفي كونه قيدا لما قبلها، غاية الأمر أن تقييد الأخيرة بالقيد المتصل بها أظهر من تقييد ما قبلها به، ولهذا كان مجمعا عليه، وكونه أظهر لا ينافي قوله فيما قبلها ظاهرا. وقد أطال أهل الأصول الكلام في القيد الواقع بعد جمل بما هو معروف عند من يعرف ذلك الفن، والحق هو هذا، والاحتجاج بما وقع تارة من القيود عائدا إلى جميع الجمل التي قبله، وتارة إلى بعضها لا تقوم به حجة ولا يصلح للاستدلال، فإنه قد يكون ذلك لدليل كما وقع هنا من الإجماع على عدم رجوع هذا الاستثناء إلى جملة الجلد. ومما يؤيد ما قررناه ويقويه أن المانع من قبول الشهادة، وهو الفسق المتسبب عن القذف قد زال، فلم يبق ما يوجب الرد للشهادة.
واختلف العلماء في صورة توبة القاذف، فقال عمر بن الخطاب والشعبي والضحاك وأهل المدينة: إن توبته لا تكون إلا بأن يكذب نفسه في ذلك القذف الذي وقع منه وأقيم عليه الحد بسببه. وقالت فرقة منهم مالك وغيره:
إن توبته تكون بأن يحسن حاله، ويصلح عمله، ويندم على ما فرط منه، ويستغفر الله من ذلك، ويعزم على ترك العود إلى مثله، وإن لم يكذب نفسه ولا رجع عن قوله. ويؤيد هذا الآيات والأحاديث الواردة في التوبة فإنها مطلقة غير مقيدة بمثل هذا القيد.
وقد أجمعت الأمة على أن التوبة تمحو الذنب، ولو كان كفرا فتمحو ما هو دون الكفر بالأولى هكذا حكى الإجماع القرطبي. قال أبو عبيد: الاستثناء يرجع إلى الجمل السابقة، وليس من رمى غيره بالزنا بأعظم جرما من مرتكب الزنا، والزاني إذا تاب قبلت شهادته، لأن التائب من الذنب كمن لا ذنب له، وإذا قبل الله التوبة من العبد كان العباد بالقبول أولى، مع أن مثل هذا الاستثناء موجود في مواضع من القرآن منها قوله - إنما جزاء الذين يحاربون الله - إلى قوله - إلا الذين تابوا - ولا شك أن هذا الاستثناء يرجع إلى الجميع. قال الزجاج: وليس القاذف بأشد جرما من الكافر، فحقه إذا تاب وأصلح أن تقبل شهادته، قال: وقوله (أبدا) أي ما دام قاذفا، كما يقال لا تقبل شهادة الكافر أبدا فإن معناه: ما دام كافرا انتهى، وجملة (فإن الله غفور رحيم) تعليل لما تضمنه الاستثناء من عدم المؤاخذة للقاذف بعد التوبة وصيرورته مغفورا له، مرحوما من الرحمن الرحيم، غير فاسق ولا مردود الشهادة، ولا مرفوع العدالة. ثم ذكر سبحانه بعد ذكره لحكم القذف على العموم حكم نوع من أنواع القذف، وهو قذف الزوج للمرأة التي تحته بعقد النكاح فقال (والذين يرمون أزواجهم ولم يكن لهم شهداء إلا