سبحانه إلى ما يحبه، ولا يستطيع ذلك إلا من كان قويا في دينه. وقيل: معناه كلما ذكر ذنبه استغفر منه وتاب عنه، وهذا داخل تحت المعنى الأول، يقال آب يئوب: إذا رجع (إنا سخرنا الجبال معه يسبحن بالعشي والإشراق) أي يقدسن الله سبحانه وينزهنه عما لا يليق به. وجملة " يسبحن " في محل نصب على الحال، وفي هذا بيان ما أعطاه الله من البرهان والمعجزة، وهو تسبيح الجبال معه. قال مقاتل: كان داود إذا ذكر الله ذكرت الجبال معه، وكان يفقه تسبيح الجبال. وقال محمد بن إسحاق: أوتي داود من حسن الصوت ما يكون له في الجبال دوي حسن، فهذا معنى تسبيح الجبال، والأول أولى. وقيل معنى " يسبحن " يصلين، و " معه " متعلق بسخرنا. ومعنى " بالعشي والإشراق " قال الكلبي: غدوة وعشية، يقال أشرقت الشمس: إذا أضاءت، وذلك وقت الضحى. وأما شروقها فطلوعها. قال الزجاج: شرقت الشمس: إذا طلعت، وأشرقت: إذا أضاءت (والطير محشورة) معطوف على الجبال، وانتصاب محشورة على الحال من الطير: أي وسخرنا الطير حال كونها محشورة: أي مجموعة إليه تسبح الله معه. قيل كانت تجمعها إليه الملائكة. وقيل كانت تجمعها الريح (كل له أواب) أي كل واحد من داود والجبال والطير رجاع إلى طاعة الله وأمره، والضمير في له راجع إلى الله عز وجل. وقيل الضمير لداود: أي لأجل تسبيح داود مسبح، فوضع أواب موضع مسبح، والأول أولى. وقد قدمنا أن الأواب: الكثير الرجوع إلى الله سبحانه (وشددنا ملكه) قويناه وثبتناه بالنصر في المواطن على أعدائه وإلقاء الرعب منه في قلوبهم. وقيل بكثرة الجنود (وآتيناه الحكمة وفصل الخطاب) المراد بالحكمة النبوة والمعرفة بكل ما يحكم به. وقال مقاتل: الفهم والعلم.
وقال مجاهد: العدل. وقال أبو العالية: العلم بكتاب الله. وقال شريح: السنة. والمراد بفصل الخطاب الفصل في القضاء وبه قال الحسن والكلبي ومقاتل. وحكى الواحدي عن الأكثر أن فصل الخطاب الشهود والإيمان لأنها إنما تنقطع الخصومة بهذا. وقيل هو الإيجاز بجعل المعنى الكثير في اللفظ القليل (وهل أتاك نبأ الخصم إذ تسوروا المحراب) لما مدحه الله سبحانه بما تقدم ذكره أردف ذلك بذكر هذه القصة الواقعة له لما فيها من الأخبار العجيبة.
قال مقاتل: بعث الله إلى داود ملكين، جبريل وميكائيل لينبهه على التوبة، فأتياه وهو في محرابه. قال النحاس:
ولا خلاف بين أهل التفسير أن المراد بالخصم ها هنا الملكان، والخصم مصدر يقع على الواحد والاثنين والجماعة.
ومعنى (تسوروا المحراب) أتوه من أعلى سوره ونزلوا إليه، والسور: الحائط المرتفع، وجاء بلفظ الجمع في تسوروا مع كونهم اثنين نظرا إلى ما يحتمله لفظ الخصم من الجمع. ومنه قول الشاعر:
وخصم غضاب قد نفضت لحاهم * كنفض البراذين العراب المخاليا والمحراب: الغرفة، لأنهم تسوروا عليه وهو فيها، كذا قال يحيى بن سلام. وقال أبو عبيدة: إنه صدر المجلس ومنه محراب المسجد. وقيل إنهما كانا إنسيين ولم يكونا ملكين، والعامل في " إذ " في قوله (إذ دخلوا عليه) النبأ:
أي هل أتاك الخبر الواقع في وقت تسورهم، وبهذا قال ابن عطية ومكي وأبو البقاء. وقيل العامل فيه أتاك.
وقيل معمول للخصم. وقيل معمول لمحذوف: أي وهل أتاك نبأ تحاكم الخصم. وقيل هو معمول لتسوروا. وقيل هو بدل مما قبله. وقال الفراء إن أحد الظرفين المذكورين بمعنى لما (ففزع منهم) وذلك لأنهما أتياه ليلا في غير وقت دخول الخصوم ودخلوا عليه بغير إذنه ولم يدخلوا من الباب الذي يدخل منه الناس. قال ابن الأعرابي: وكان محراب داود من الامتناع بالارتفاع بحيث لا يرتقي إليه آدمي بحيلة، وجملة (قالوا لا تخف) مستأنفة جواب سؤال مقدر كأنه قيل: فماذا قالوا لداود لما فزع منهم وارتفاع (خصمان) على أنه خبر مبتدأ محذوف: أي نحن خصمان، وجاء فيما سبق بلفظ الجمع، وهنا بلفظ التثنية لما ذكرنا من أن لفظ الخصم يحتمل المفرد والمثنى والمجموع، فالكل