الباهرة فقال (رب السماوات والأرض وما بينهما) قرأ الجمهور " رب " بالرفع عطفا على السميع العليم، أو على أنه مبتدأ وخبره لا إله إلا هو، أو على أنه خبر لمبتدأ محذوف: أي هو رب، وقرأ الكوفيون " رب " بالجر على أنه بدل من ربك، أو بيان له أو نعت (إن كنتم موقنين) بأنه رب السماوات والأرض وما بينهما، وقد أقروا بذلك كما حكاه الله عنهم في غير موضع، وجملة (لا إله إلا هو) مستأنفة مقررة لما قبلها، أو خبر رب السماوات كما مر، وكذلك جملة (يحيي ويميت) فإنها مستأنفة مقررة لما قبلها (ربكم ورب آبائكم الأولين) قرأ الجمهور بالرفع على الاستئناف بتقدير مبتدأ: أي هو ربكم، أو على أنه بدل من رب السماوات، أو بيان أو نعت له، وقرأ الكسائي في رواية الشيرازي عنه وابن ميحصن وابن أبي إسحاق وأبو حيوة والحسن بالجر، ووجه الجر ما ذكرناه في قراءة من قرأ بالجر في رب السماوات (بل هم في شك يلعبون) أضرب عن كونهم موقنين إلى كونهم في شك من التوحيد والبعث، وفي إقرارهم بأن الله خالقهم وخالق سائر المخلوقات، وأن ذلك منهم على طريقة اللعب والهزو، ومحل يلعبون الرفع على أنه خبر ثان أو النصب على الحال (فارتقب يوم تأتي السماء بدخان مبين) الفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها، لأن كونهم في شك ولعب يقتضي ذلك، والمعنى: فانتظر لهم يا محمد يوم تأتي السماء بدخان مبين، وقيل المعنى: احفظ قولهم هذا لتشهد عليهم يوم تأتي السماء بدخان مبين.
وقد اختلف في هذا الدخان المذكور في الآية متى يأتي؟ فقيل إنه من أشراط الساعة، وأنه يمكث في الأرض أربعين يوما. وقد ثبت في الصحيح أنه من جملة العشر الآيات التي تكون قبل قيام الساعة، وقيل إنه أمر قد مضى، وهو ما أصاب قريشا بدعاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم حتى كان الرجل يرى بين السماء والأرض دخانا، وهذا ثابت في الصحيحين وغيرهما: وذلك حين دعا عليهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم بسنين كسني يوسف، فأصابهم قحط وجهد حتى أكلوا العظام، وكان الرجل ينظر إلى السماء فيرى ما بينه وبينها كهيئة الدخان من الجهد، وقيل إنه يوم فتح مكة، وسيأتي في آخر البحث بيان ما يدل على هذه الأقوال. وقوله (يغشي الناس) صفة ثانية لدخان: أي يشملهم ويحيط بهم (هذا عذاب أليم) أي يقولون هذا عذاب أليم، أو قائلين ذلك، أو يقول الله لهم ذلك (ربنا اكشف عنا العذاب إنا مؤمنون) أي يقولون ذلك، وقد روي أنهم أتوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقالوا: إن كشف الله عنا هذا العذاب أسلمنا، والمراد بالعذاب الجوع الذي كان بسببه ما يرونه من الدخان أو يقولونه إذا رأو الدخان الذي هو من آيات الساعة، أو إذا رأوه يوم فتح مكة على اختلاف الأقوال. والراجح منها أنه الدخان الذي كانوا يتخيلونه مما نزل بهم من الجهد وشدة الجوع، ولا ينافي ترجيح هذا ما ورد إن الدخان من آيات الساعة، فإن ذلك دخان آخر ولا ينافيه أيضا ما قيل إنه الذي كان يوم فتح مكة، فإنه دخان آخر على تقدير صحة وقوعه (أنى لهم الذكرى) أي كيف يتذكرون ويتعظون بما نزل بهم " و " الحال أن (قد جاءهم رسول مبين) يبين لهم كل شئ يحتاجون إليه من أمر الدين والدنيا (ثم تولوا عنه) أي أعرضوا عن ذلك الرسول الذي جاءهم ولم يكتفوا بمجرد الإعراض عنه، بل جاوزوه (وقالوا معلم مجنون) أي قالوا: إنما يعلمه القرآن بشر وقالوا إنه مجنون، فكيف يتذكر هؤلاء وأنى لهم الذكرى. ثم لما دعوا الله بأن يكشف عنهم العذاب وأنه إذا كشفه عنهم آمنوا أجاب سبحانه عليهم بقوله (كاشفوا العذاب قليلا) أي إنا نكشفه عنهم كشفا قليلا أو زمانا قليلا ثم أخبر الله سبحانه عنهم أنهم لا ينزجرون عما كانوا عليه من الشرك، ولا يفون بما وعدوا به من الإيمان فقال (إنكم عائدون) أي إلى ما كنتم عليه من الشرك، وقد كان الأمر هكذا، فإن الله سبحانه لما كشف عنهم ذلك