مالك، والأول أظهر. والمعنى: إنا أرسلنا إليكم الرسل وأنزلنا عليهم الكتب فدعوكم فلم تقبلوا ولم تصدقوا، وهو معنى قوله (ولكن أكثركم للحق كارهون) لا يقبلونه، والمراد بالحق: كل ما أمر الله به على ألسن رسله وأنزله في كتبه. وقيل هو خاص بالقرآن. قيل ومعنى أكثركم: كلكم. وقيل أراد الرؤساء والقادة، ومن عداهم أتباع لهم (أم أبرموا أمرا فانا مبرمون) أم هي المنقطعة التي بمعنى بل والهمزة: أي بل أبرموا أمرا. وفي ذلك انتقال من توجع أهل النار إلى حكاية ما يقع من هؤلاء، والإبرام: الإتقان والإحكام، يقال أبرمت الشئ: أحكمته وأتقنته، وأبرم الحبل: إذا أحكم فتله، والمعنى: بل أحكموا كيدا للنبي صلى الله عليه وآله وسلم فإنا محكمون لهم كيدا قاله مجاهد وقتادة وابن زيد، ومثل هذا قوله تعالى - أم يريدون كيدا فالذين كفروا هم المكيدون - وقيل المعنى: أم قضوا أمرا فإنا قاضون عليهم أمرنا بالعذاب قاله الكلبي (أم يحسبون أنا لا نسمع سرهم ونجواهم) أي بل أيحسبون أنا لا نسمع ما يسرون به في أنفسهم، أو ما يتحادثون به سرا في مكان خال وما يتناجون به فيما بينهم (بلى) نسمع ذلك ونعمل به (ورسلنا لديهم يكتبون) أي الحفظة عندهم يكتبون جميع ما يصدر عنهم من قول أو فعل، والجملة في محل نصب على الحال، أو معطوفة على الجملة التي تدل عليها بلى. ثم أمر الله سبحانه رسوله صلى الله عليه وآله وسلم أن يقول للكفار قولا يلزمهم به الحجة ويقطع ما يوردونه من الشبهة فقال (قل إن كان للرحمن ولد فأنا أول العابدين) أي إن كان له ولد في قولكم وعلى زعمكم فأنا أول من عبد الله وحده، لأن من عبد الله وحده فقد دفع أن يكون له ولد، كذا قال ابن قتيبة. وقال الحسن والسدي: إن المعنى ما كان للرحمن ولد، ويكون قوله (فأنا أول العابدين) ابتداء كلام، وقيل المعنى: قل يا محمد إن ثبت لله ولد، فأنا أول من يعبد هذا الولد الذي تزعمون ثبوته، ولكنه يستحيل أن يكون له ولد. وفيه نفي للولد على أبلغ وجه وأتم عبارة وأحسن أسلوب، وهذا هو الظاهر من النظم القرآني، ومن هذا القبيل قوله تعالى - إنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين - ومثل هذا قول الرجل لمن يناظره: إن ثبت ما تقوله بالدليل فأنا أول من يعتقده ويقول به، فتكون " إن " في " إن كان " شرطية، ورجح هذا ابن جرير وغيره. وقيل معنى العابدين: الآنفين من العبادة، وهو تكلف لا ملجئ إليه، ولكنه قرأ أبو عبد الرحمن اليماني " العبدين " بغير ألف، يقال عبد يعبد عبدا بالتحريك: إذا أنف وغضب فهو عبد، والاسم العبدة مثل الأنفة، ولعل الحامل لمن قرأ هذه القراءة الشاذة البعيدة هو استبعاد معنى (فأنا أول العابدين) وليس بمستبعد ولا مستنكر. وقد حكى الجوهري عن أبي عمرو في قوله (فأنا أول العابدين) أنه من الأنف والغضب. وحكاه الماوردي عن الكسائي والقتيبي، وبه قال الفراء. وكذا قال ابن الأعرابي: إن معنى العابدين الغضاب الآنفين. وقال أبو عبيدة: معناه الجاحدين، وحكى عبدني حقي: أي جحدني، وقد أنشدوا على هذا المعنى الذي قالوه قول الفرزدق:
أولئك أحلاسي فجئني بمثلهم * وأعبد أن أهجوا كليبا بدارم وقوله أيضا: أولاك أناس لو هجوني هجوتهم * وأعبد أن يهجي كليب بدارم ولا شك أن عبد وأعبد بمعنى أنف أو غضب ثابت في لغة العرب وكفى بنقل هؤلاء الأئمة حجة، ولكن جعل ما في القرآن من هذا من التكلف الذي لا ملجئ إليه ومن التعسف الواضح. وقد رد ابن عرفة ما قالوه فقال:
إنما يقال عبد يعبد فهو عبد، وقل ما يقال عابد والقرآن لا يأتي بالقليل من اللغة ولا الشاذ. قرأ الجمهور " ولد " بالإفراد، وقرأ أهل الكوفة إلا عاصما " ولد " بضم الواو وسكون اللام (سبحان رب السماوات والأرض رب العرش عما يصفون) أي تنزيها له وتقديسا عما يقولون من الكذب بأن له ولدا ويفترون عليه سبحانه مالا يليق بجنابه.