كرر ذلك الرجل المؤمن دعاءهم إلى الله وصرح بإيمانه، ولم يسلك المسالك المتقدمة من إيهامه لهم أنه منهم، وأنه إنما تصدى التذكير كراهة أن يصيبهم بعض ما توعدهم به موسى كما يقوله الرجل المحب قومه من التحذير عن الوقوع فيما يخاف عليهم الوقوع فيه فقال (ويا قوم مالي أدعوكم إلى النجاة وتدعونني إلى النار) أي أخبروني عنكم كيف هذه الحال: أدعوكم إلى النجاة من النار ودخول الجنة بالإيمان بالله وإجابة رسله، وتدعونني إلى النار بما تريدونه منى من الشرك. قيل معنى (مالي أدعوكم) مالكم أدعوكم كما تقول: مالي أراك حزينا أي مالك. ثم فسر الدعوتين فقال (تدعونني لأكفر بالله وأشرك به ما ليس لي به علم)، فقوله تدعونني بدل من تدعونني الأولى أو بيان لها (ما ليس لي به علم) أي ما لا علم لي بكونه شريكا لله (وأنا أدعوكم إلى العزيز الغفار) أي إلى العزيز في انتقامه ممن كفر " الغفار " لذنب من آمن به (لا جرم) قد تقدم تفسير هذا في سورة هود، وجرم فعل ماض بمعنى حق، ولا الداخلة عليه لنفي ما ادعوه ورد ما زعموه، وفاعل هذا الفعل هو قوله (إنما تدعونني إليه ليس له دعوة في الدنيا ولا في الآخرة) أي حق ووجب بطلان دعوته. قال الزجاج: معناه ليس له استجابة دعوة تنتفع، وقيل ليس له دعوة توجب له الألوهية في الدنيا ولا في الآخرة. قال الكلبي: ليس له شفاعة (وأن مردنا إلى الله) أي مرجعنا ومصيرنا إليه بالموت أولا، وبالبعث آخرا، فيجازي كل أحد بما يستحقه من خير وشر (وأن المسرفين هم أصحاب النار) أي المستكثرين من معاصي الله. قال قتادة وابن سيرين: يعني المشركين. وقال مجاهد والشعبي:
هم السفهاء السفاكون للدماء بغير حقها. وقال عكرمة: الجبارون والمتكبرون. وقيل هم الذين تعدوا حدود الله، " وأن " في الموضعين عطف على " أن " في قوله (أنما تدعونني إليه) والمعنى: وحق أن مردنا إلى الله، وحق أن المسرفين الخ (فستذكرون ما أقول لكم) إذا نزل بكم العذاب وتعلمون أني قد بالغت في نصحكم وتذكيركم، وفي هذا الإبهام من التخويف والتهديد ما لا يخفى (وأفوض أمري إلى الله) أي أتوكل عليه وأسلم أمري إليه. قيل إنه قال هذا لما أرادوا الإيقاع به. قال مقاتل: هرب هذا المؤمن إلى الجبل فلم يقدروا عليه. وقيل القائل هو موسى، والأول أولى (فوقاه الله سيئات ما مكروا) أي وقاه الله ما أرادوا به من المكر السيء، وما أرادوه به من الشر. قال قتادة: نجاه الله مع بني إسرائيل (وحاق بآل فرعون سوء العذاب) أي أحاط بهم ونزل عليهم سوء العذاب. قال الكسائي: يقال حاق يحيق حيقا وحيوقا: إذا نزل ولزم. قال الكلبي: غرفوا في البحر ودخلوا النار، والمراد بآل فرعون: فرعون وقومه، وترك التصريح به للاستغناء بذكرهم عن ذكره لكونه أولى بذلك منهم، أو المراد بآل فرعون فرعون نفسه. والأول أولى لأنهم قد عذبوا في الدنيا جميعا بالغرق، وسيعذبون في الآخرة بالنار ثم بين سبحانه ما أجمله من سوء العذاب، فقال (النار يعرضون عليها غدوا وعشيا) فارتفاع النار على أنها بدل من سوء العذاب، وقيل على أنها خبر مبتدأ محذوف، أو مبتدأ وخبره يعرضون، والأول أولى ورجحه الزجاج وعلى الوجهين الأخيرين تكون الجملة مستأنفة جواب سؤال مقدر. وقرئ بالنصب على تقدير فعل يفسره يعرضون من حيث المعنى: أي يصلون النار يعرضون عليها، أو على الاختصاص، وأجاز الفراء الخفض على البدل من