لجهتين: إحداهما: - وهي ترتبط بمقام الثبوت - هو ان الألفاظ المتداولة الموضوعة لمعانيها بحد من الكثرة يمتنع عادة ان يوجد من البشر من يستطيع لحاظها جميعا بمعانيها ووضعها لها، مع أن الوضع يتوقف على لحاظ كل من اللفظ والمعنى. والأخرى: - وهي ترتبط بمقام الاثبات - هي ان عملية الوضع المذكورة لو سلم امكانها من الأمور المهمة، والحوادث الجليلة التي تستدعي انتباه الناس وتداول ذكرها من ألسنتهم ومعرفة من قام بها، فلو كان لها اثر في الخارج لسجلت في أمهات الكتب كما تسجل الحوادث التي هي أقل منها شأنا ولتناقلتها الألسن في مختلف الدهور، مع أن الامر ليس كذلك، إذ لم يجئ في خبر ان شخصا قام بهذا العمل الجبار، وهو يكشف عن عدم وقوعه من أحد.
وعليه، فينحصر أن يكون الواضع هو الله جل وعلا، ويكون الوضع من مجعولاته واعتباراته جل شأنه. إلا أنه جرت العادة أن يكون ايصال المجعولات الشرعية إلى البشر بواسطة الرسل والأنبياء، وحيث إنه لم يثبت ان رسولا ما أخبر عن الله تعالى بوضع لفظ خاص لمعنى خاص كان ادراك هذه الحقيقة الثابتة بالالهام لا بالتبليغ، فالوضع ليس بالأمر التكويني الواقعي، لأنه من اعتبارات الله عز وجل ومجعولاته وليس مما يحتاج إلى جعل، كما أنه ليس كسائر الأمور الاعتبارية، لان ايصالها بواسطة الرسل، مع أنه ايصاله بالالهام، فهو بهذا اللحاظ برزخ بين الامر الحقيقي والجعلي.
وظاهر ان الايراد على الوسطية المزبورة، بأنه لا يتصور وجود أمر وسط بين الواقعي والجعلي، لان الامر إما أن يكون له ثبوت وتقرر في نفس الامر والواقع، بحيث لا تصل إليه يد الجعل ولا يختلف باختلاف الانظار، فهو واقعي، أو لا يكون كذلك، بل كان أمرا دائرا مدار الجعل ويختلف باختلاف الانظار، فهو اعتباري جعلي ولا وسط بينهما، إذ لا ثالث بين النفي والاثبات.
غير وجيه: فان المحقق المزبور لم يدع ان حقيقة الوضع حقيقة ثالثة