والذي يمكن ثبوتا من هذه الانحاء المتعددة هو القول الأخير والثالث، أعني: (كونه عبارة عن اعتبار الارتباط بين اللفظ والمعنى، وكونه عبارة عن التعهد والالتزام) ومقام الاثبات دائر بينهما.
أما الانحاء الأخرى فلا يتصور لها معنى معقول يمكن فرضه اثباتا.
ولا بد في وضوح ذلك من معرفة حقيقة كل نحو والمراد منه وبيان جهة المناقشة فيه.
أما القول الأول: أعني القول بأنه أمر حقيقي تكويني واقعي، فلا بد في معرفة أنحائه والمناقشة فيها، من بيان المراد من الامر الحقيقي والامر الجعلي، فنقول: المراد بالحقيقي التكويني، ما كان له نحو ثبوت في نفس الامر والواقع بلا ارتباط بجعل جاعل وفرض فارض، بل هو ثابت ولو لم يكن جاعل ويقابله الامر الجعلي، فان ثبوته بجعل الجاعل من دون أن يكون له تقرر في نفس الامر.
ويترتب على هذا ان اختلاف الانظار في ثبوت الامر الحقيقي لا يوجب تغيرا في ثبوته ولا يستلزم التبدل فيه، بل هو على ما هو عليه من التقرر والثبوت، والاختلاف المذكور يرجع إلى تخطئة كل من المختلفين للاخر في نظره وعلمه بثبوته أو عدم ثبوته، ولا يضير اعتقاد عدم ثبوته فيه، بل يكون كما كان بلا تغير ولا تبدل، بخلاف اختلافه في الامر الجعلي، فإنه يرجع إلى اعتباره وعدم اعتباره، فيوجب تبديلا فيه ويكون ثابتا بالنسبة إلى بعض وغير ثابت بالنسبة إلى آخرين ولا يرجع إلى التخطئة في النظر، إذ هو موجود مع فرض تسليم ثبوته بالنسبة إلى الجاعل والمعتبر. نظير ما لو اعتبر قوم شخصا رئيسا لهم ولم يعتبره آخرون واعتبروا غيره رئيسا، فان اختلاف النظر في الرئيس لا يرجع إلى تخطئة كل الاخر في دعواه، إذ لا واقع للرئيس غير الاعتبار، وانما يرجع إلى الاختلاف في الاعتبار والجعل وذلك يستلزم أن يكون الرئيس لكل غيره للاخر لعدم