قوله (ألم تلك آيات الكتاب) قد تقدم الكلام على أمثال فاتحة هذه السورة ومحلها من الإعراب مستوفى فلا نعيده، وبيان مرجع الإشارة أيضا، و (الحكيم) إما أن يكون بمعنى مفعل، أو بمعنى فاعل، أو بمعنى ذي الحكمة أو الحكيم قائلة، و (هدى ورحمة) منصوبان على الحال على قراءة الجمهور. قال الزجاج: المعنى تلك آيات الكتاب في حال الهداية والرحمة، وقرأ حمزه " ورحمة " بالرفع على أنهما خبر مبتدأ محذوف: أي هو هدى ورحمة، ويجوز أن يكونا خبر تلك، والمحسن العامل للحسنات، أو من يعبد الله كأنه يراه كما ثبت عنه صلى الله عليه وآله وسلم في الصحيح لما سأله جبريل عن الاحسان: فقال " أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك " ثم بين عمل المحسنين فقال (الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم بالآخرة هم يوقنون) والموصول في محل جر على الوصف للمحسنين، أو في محل رفع، أو نصب على المدح أو القطع، وخص هذه العبادات الثلاث لأنها عمدة العبادات (أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون) قد تقدم تفسير هذا في أوائل سورة البقرة، والمعنى هنا: أن أولئك المتصفين بالإحسان وفعل تلك الطاعات التي هي أمهات العبادات هم على طريقة الهدى. وهم الفائزون بمطالبهم الظافرون بخيري الدارين (ومن الناس من يشتري لهو الحديث) محل " ومن الناس " الرفع على الابتداء كما تقدم بيانه في سورة البقرة، وخبره " من يشتري لهو الحديث " ومن إما موصولة أو موصوفة، ولهو الحديث كل ما يلهي عن الخير من الغناء والملاهي والأحاديث المكذوبة وكل ما هو منكر، والإضافة بيانية.
وقيل المراد شراء القينات المغنيات والمغنين، فيكون التقدير: ومن يشتري أهل لهو الحديث. قال الحسن: لهو الحديث المعازف والغناء. وروي عنه أنه قال: هو الكفر والشرك. قال القرطبي: أن أولى ما قيل في هذا الباب هو تفسير لهو الحديث بالغناء، قال: وهو قول الصحابة والتابعين، واللام في (ليضل عن سبيل الله) للتعليل.
قرأ الجمهور بضم الياء من " ليضل " أي ليضل غيره عن طريق الهدى ومنهج الحق، وإذا أضل غيره فقد ضل في نفسه. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن محيصن وحميد وورش وابن أبي إسحاق بفتح الياء: أي ليضل هو في نفسه.
قال الزجاج: من قرأ بضم الياء، فمعناه ليضل غيره، فإذا أضل غيره فقد ضل هو، ومن قرأ بفتح الياء فمعناه ليصير أمره إلى الضلال، وهو وإن لم يكن يشتري للضلالة، فإنه يصير أمره إلى ذلك، فأفاد هذا التعليل أنه إنما يستحق الذم من اشترى لهو الحديث لهذا المقصد، ويؤيد هذا سبب نزول الآية وسيأتي. قال الطبري: قد أجمع علماء الأمصار على كراهة الغناء والمنع منه، وإنما فارق الجماعة إبراهيم بن سعد وعبد الله العنبري. قال القاضي أبو بكر بن العربي: يجوز للرجل أن يسمع غناء جاريته إذ ليس شئ منها عليه حرام لا من ظاهرها ولا من باطنها، فكيف يمنع من التلذذ بصوتها؟
قلت: قد جمعت رسالة مشتملة على أقوال أهل العلم في الغناء وما استدل به المحللون له والمحرمون له، وحققت هذا المقام بما لا يحتاج من نظر فيها وتدبر معانيها إلى النظر في غيرها، وسميتها (إبطال دعوى الإجماع، على تحريم مطلق السماع) فمن أحب تحقيق المقام كما ينبغي فليرجع إليها.