وكلام الجوهري يفيد اختصاص المبالغة بعجاب مشدد الجيم لا بالمخفف، وقد قدمنا في صدر هذه السورة سبب نزول هذه الآيات (وانطلق الملأ منهم) المراد بالملأ: الأشراف كما هو مقرر في غير موضع من تفسير الكتاب العزيز أي انطلقوا من مجلسهم الذي كانوا فيه عند أبي طالب كما تقدم قائلين (أن امشوا) أي قائلين لبعضهم بعضا امضوا على ما كنتم عليه ولا تدخلوا في دينه (واصبروا على آلهتكم) أي أثبتوا على عبادتها، وقيل المعنى: وانطلق الأشراف منهم فقالوا للعوام امشوا واصبروا على آلهتكم، و " أن " في قوله (أن امشوا) هي المفسرة للقول المقدر، أو لقوله " وانطلق " لأنه مضمن معنى القول، ويجوز أن تكون مصدرية معمولة للمقدر أو للمذكور: أي بأن امشوا.
وقيل المراد بالانطلاق: الاندفاع في القول، وامشوا من مشت المرأة إذا كثرت ولادتها: أي اجتمعوا وأكثروا، وهو بعيد جدا، وخلاف ما يدل عليه الانطلاق والمشي بحقيقتهما، وخلاف ما تقدم في سبب النزول، وجملة (إن هذا لشئ يراد) تعليل لما تقدمه من الأمر بالصبر: أي يريده محمد بنا وبآلهتنا، ما ويود تمامه ليعلو علينا، ونكون له أتباعا فيتحكم فينا بما يريد، فيكون هذا الكلام خارجا مخرج التحذير منه والتنفير عنه. وقيل المعنى:
إن هذا الأمر يريده الله سبحانه، وما أراده فهو كائن لا محالة، فاصبروا على عبادة آلهتكم. وقيل المعنى: إن دينكم لشئ يراد: أي يطلب ليؤخذ منكم وتغلبوا عليه، والأول أولى (ما سمعنا بهذا في الملة الآخرة) أي ما سمعنا بهذا الذي يقوله محمد من التوحيد في الملة الآخرة. وهي ملة النصرانية فإنها آخر الملل قبل ملة الإسلام، كذا قال محمد بن كعب القرظي وقتادة ومقاتل والكلبي والسدي. وقال مجاهد: يعنون ملة قريش، وروي مثله عن قتادة أيضا. وقال الحسن: المعنى ما سمعنا: أن هذا يكون آخر الزمان. وقيل المعنى: ما سمعنا من اليهود والنصارى أن محمدا رسول (إن هذا إلا اختلاق) أي ما هذا إلا كذب اختلقه محمد وافتراه. ثم استنكروا أن يخص الله رسوله بمزية النبوة دونهم فقالوا: (أأنزل عليه الذكر من بيننا) والاستفهام للإنكار: أي كيف يكون ذلك ونحن الرؤساء والاشراف. قال الزجاج: قالوا كيف أنزل على محمد القرآن من بيننا ونحن أكبر سنا وأعظم شرفا منه، وهذا مثل قولهم - لولا أنزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم - فأنكروا أن يتفضل الله سبحانه على من يشاء من عباده بما شاء. ولما ذكر استنكارهم لنزول القرآن على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم دونهم بين السبب الذي لأجله تركوا تصديق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيما جاء به، فقال (بل هم في شك من ذكري) أي من القرآن أو الوحي لإعراضهم عن النظر الموجب لتصديقه وإهمالهم للأدلة الدالة على أنه حق منزل من عند الله (بل لما يذوقوا عذاب) أي بل السبب أنهم لم يذوقوا عذابي فاغتروا بطول المهلة، ولو ذاقوا عذابي على ما هم عليه من الشرك والشك لصدقوا ما جئت به من القرآن ولم يشكوا فيه (أم عندهم خزائن رحمة ربك العزيز الوهاب) أي مفاتيح نعم ربك وهي النبوة وما هو دونها من النعم حتى يعطوها من شاءوا، فما لهم ولانكار ما تفضل الله به على هذا النبي واختاره له واصطفاه لرسالته. والمعنى: بل أعندهم، لأن أم هي المنقطعة المقدرة ببل والهمزة. والعزيز الغالب القاهر. والوهاب: المعطي بغير حساب (أم لهم ملك السماوات والأرض وما بينهما) أي بل ألهم ملك هذه الأشياء حتى يعطوا من شاءوا ويمنعوا من شاءوا، ويعترضوا على إعطاء الله سبحانه ما شاء لمن شاء، وقوله (فليرتقوا في الأسباب) جواب شرط محذوف: أي إن كان لهم ذلك فليصعدوا في الأسباب التي توصلهم إلى السماء أو إلى العرش حتى يحكموا بما يريدون من عطاء ومنع ويدبروا أمر العالم بما يشتهون، أو فليصعدوا، وليمنعوا الملائكة من نزولهم بالوحي على محمد صلى الله عليه وسلم. والأسباب: أبواب السماوات التي تنزل الملائكة منها.
قاله مجاهد وقتادة، ومنه قول زهير * ولو رام أسباب السماء بسلم * قال الربيع بن أنس: الأسباب أدق