بدينهم، ويجوز أن يراد أنه يدعو جميع التابعين والمتبوعين إلى العذاب، فدعاؤه للمتبوعين بتزيينه لهم الشرك، ودعاؤه للتابعين بتزيينه لهم دين آبائهم، وجواب لو محذوف: أي يدعوهم فيتبعونهم، ومحل الجملة النصب على الحال. وما أقبح التقليد، وأكثر ضرره على صاحبه، وأوخم عاقبته، وأشأم عائدته على من وقع فيه. فإن الداعي له إلى ما أنزل الله على رسوله كمن يريد أن يذود الفراش عن لهب النار لئلا تحترق، فتأبى ذلك وتتهافت في نار الحريق وعذاب السعير (ومن يسلم وجهه إلى الله) أي يفوض إليه أمره، ويخلص له عبادته ويقبل عليه بكليته (وهو محسن) في أعماله، لأن العبادة من غير إحسان لها ولا معرفة بما يحتاج إليه فيها لا تقع بالموقع الذي تقع به عبادة المحسنين. وقد صح عن الصادق المصدوق لما سأله جبريل عن الإحسان أنه قال له " أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك " (فقد استمسك بالعروة الوثقى) أي اعتصم بالعهد الأوثق وتعلق به، وهو تمثيل لحال من أسلم وجهه إلى الله بحال من أراد أن يترقى إلى شاهق جبل، فتمسك بأوثق عرى حبل متدل منه (وإلى الله عاقبة الأمور) أي مصيرها إليه لا إلى غيره. وقرأ علي بن أبي طالب والسلمي وعبد الله بن مسلم بن يسار " ومن يسلم " بالتشديد. قال النحاس: والتخفيف في هذا أعرف كما قال عز وجل - فقل أسلمت وجهي لله - (ومن كفر فلا يحزنك كفره) أي لا تحزن لذلك، فإن كفره لا يضرك، بين سبحانه حال الكافرين بعد فراغه من بيان حال المؤمنين، ثم توعدهم بقوله (إلينا مرجعهم فننبئهم بما عملوا) أي تخبرهم بقبائح أعمالهم ونجازيهم عليها (إن الله عليم بذات الصدور) أي بما تسره صدورهم لا تخفى عليه من ذلك خافية. فالسر عنده كالعلانية (نمتعهم قليلا) أي نبقيهم في الدنيا مدة قليلة يتمتعون بها. فإن النعيم الزائل هو أقل قليل بالنسبة إلى النعيم الدائم. وانتصاب قليلا على أنه صفة لمصدر محذوف: أي تمتيعا قليلا (ثم نضطرهم إلى عذاب غليظ) أي نلجهئم غير إلى عذاب النار.
فإنه لا أثقل منه على من وقع فيه وأصيب به، فلهذا أستعير له الغلظ (ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله) أي يعترفون بالله خالق ذلك لوضوح الأمر فيه عندهم. وهذا اعتراف منهم بما يدل على التوحيد وبطلان الشرك ولهذا قال (قل الحمد لله) أي قل يا محمد الحمد لله على اعترافكم، فكيف تعبدون غيره وتجعلونه شريكا له؟ أو المعنى: فقل الحمد لله على ما هدانا له من دينه ولا حد لغيرة ثم أضرب عن ذلك فقال (بل أكثرهم لا يعلمون) أي لا ينظرون ولا يتدبرون حتى يعلموا أن خالق هذه الأشياء هو الذي تجب له العبادة دون غيره (لله ما في السماوات والأرض) ملكا وخلقا فلا يستحق العبادة غيره (إن الله هو الغني) عن غيره (الحميد) أي المستحق للحمد أو المحمود من عباده بلسان المقال أو بلسان الحال. ثم لما ذكر سبحانه أن له ما في السماوات والأرض أتبعه بما يدل على أن له وراء ذلك مالا يحيط به عدد ولا يحصر بحد فقال (ولو أن ما في الأرض من شجرة أقلام) أي لو أن جميع ما في الأرض من الشجر أقلام، ووحد الشجرة لما تقرر في علم المعاني أن استغراق المفرد أشمل، فكأنه قال: كل شجرة شجرة حتى لا يبقي من جنس الشجر واحدة إلا وقد بريت أقلاما، وجمع الأقلام لقصد التكثير:
أي لو أن يعد كل شجرة من الشجر أقلاما. قال أبو حيان: وهو من وقوع المفرد موقع الجمع والنكرة موقع المعرفة كقوله - ما ننسخ من آية -، ثم قال سبحانه (والبحر يمده من بعده سبعة أبحر) أي يمده من بعد نفاده سبعة أبحر. قرأ الجمهور " والبحر " بالرفع على أنه مبتدأ، ويمده خبره، والجملة في محل الحال: أي والحال أن البحر المحيط مع سعته يمده السبعة الأبحر مدا لا ينقطع، كذا قال سيبويه. وقال المبرد: إن البحر مرتفع بفعل مقدر تقديره ولو ثبت البحر حال كونه تمده من بعده سبعة أبحر، وقيل: هو مرتفع بالعطف على أن وما في حيزها.
وقرأ أبو عمرو وابن أبي إسحاق والبحر بالنصب عطفا على اسم أن، أو بفعل مضمر يفسره يمده. وقرأ ابن هرمز والحسن " يمده " بضم حرف المضارعة وكسر الميم، من أمد. وقرأ جعفر بن محمد والبحر " مداده " وجواب لو