المثال الثاني: لنفترض أننا دخلنا إلى غرفة فيها شخصان كل منهما جالس أمام آلة طابعة يريدان تحرير قصيدة لأحد الشعراء فالأول يحسن القراءة والكتابة، ويعرف مواضع الحروف من الآلة والآخر أمي لا يجيد سوى الضغط بأصابعه على الأزرار، فيشرعان بعملهما في لحظة واحدة.
الذي نلاحظه أن الأول دقيق في عمله يضرب بأصابعه حسب الحروف الواردة في القصيدة دون أن يسقط حرفا أو كلمة منها.
وأما الآخر، الأمي البصير، فيضرب على الآلة دون علم أو هدى ولا يستطيع أن يميز العين من الغين، والسين من الشين: ونتيجة عمله ليست إلا الهباء وإتلاف الأوراق، ولا يأتي بشئ مما أردناه:
فنتاج الأول محصول كاتب متعلم، ونتاج الثاني محصول جاهل لا علم له ولا خبرة ولو أعطي المجال للألوف ممن كف بصرهم وحرموا لذة العلم والتعلم أن يحرروا نسخة صحيحة من ملايين النسخ التي يحررونها لاستحال ذلك، لأنهم يفقدون ما هو العمدة والأساس.
ولعلنا نشاهد في كل جزء من هذا الكون مثل تلك الصفحة التي حررت فيها قصيدة الشاعر وترانا ملزمين بالاعتراف بعلم ومعرفة وحسن أسلوب كاتبها ونجزم بأنه بصير لم يكن فاقدا للعلم، ولم يكن فعله مشابها لفعل صبي رأى نفسه في غرفة خالية، فطرق في خياله أن يلهو ويلعب على آلة طابعة كي ينتج تلك الصفحة من قصيدة الشاعر.
وبعد ذكر الأمثلة المتقدمة يتضح لنا الفرق بين الأعمال التي تصدر عن إرادة وتدبر، والتي تحدث عن طريق الصدفة، إذ لا إرادة فيها ولا تدبر.
وهذه القاعدة التي يدركها العقل (لا بفضل التجربة بل في ظل التفكر والتعقل) هي روح برهان النظم الذي هو من أوضح براهين الإلهيين في