عاقل، ولكننا لم نجرب ذلك في الكون، فإن الكون لم يتكرر وجوده حتى يقف الإنسان على كيفية خلقه وإيجاده، بل واجهه لأول مرة، وبهذا لا يمكن أن يثبت له علة خالقة على غرار مصنوعات البشر إلا إذا جربه من قبل عشرات المرات، وشهد عملية الخلق والتكون كما شاهد ذلك وجربه في المصنوعات البشرية، حتى يقف على أن الكون بما فيه من النظام لا يمكن أن يوجد من دون خالق عليم وصانع خبير. هذا هو محصل إشكاله أوردناه بغاية الوضوح.
إن ما ذكره من الإشكال ينم عن فهم ساذج وسطحي للغاية لبرهان النظم، ويعرب عن فقدان الغرب لمدرسة فلسفية متكاملة تدرك وتستوعب برهان النظم بصورته الصحيحة، فإن هذا البرهان لا يرتبط أبدا بالتشابه والتمثيل والتجربة، وإنما هو برهان عقلي تام، يحكم العقل فيه بعد ملاحظة طبيعة النظام وماهيته بأنه صادر من فاعل عاقل وخالق قدير.
توضيح ما ذكرناه أن برهان النظم ليس مبنيا على التشابه بين مصنوعات البشر والموجود الطبيعي كما جاء في اعتراض " هيوم "، حتى يقال بالفرق بين الصنفين، ويقال هذا صناعي وذاك طبيعي، ولا يمكن إسراء حكم الأول إلى الثاني.
ولا على التماثل - الذي هو الملاك في التجربة - حتى يقال إنا جربنا ذلك في المصنوعات البشرية ولم نجربه في الكون لعدم تكرر وقوعه وعدم وقوفنا على تواجده مرارا، فلا يصح سحب حكم الأول على الثاني وتعديته إليه.
وإنما هو قائم على ملاحظة العقل للنظم والتناسق والانضباط بين أجزاء الوجود، فيحكم بما هو هو، من دون دخالة لأية تجربة ومشابهة، بأن موجد النظم لا محالة يكون موجودا ذا عقل وشعور، وإليك البيان: