إثبات الصانع ورفض الالحاد والمادية، واشملها لجميع الطبقات. وملخص بيانهم في تطبيق هذه المقدمة على العالم، هو أن العلم لم يزل يتقدم ويكشف عن الرموز والسنن الموجودة في عالم المادة والطبيعة والعلوم كلها بشتى أقسامها وأصنافها وتشعبها وتفرعها تهدف إلى أمر واحد وهو أن العالم الذي نعيش فيه، من الذرة إلى المجرة عالم منسجم تسود عليه أدق الأنظمة والضوابط، فما هي تلك العلة؟ أقول: إنها تتردد بين شيئين لا غير.
الأول: إن هناك موجودا خارجا عن إطار المادة عالما قادرا واجدا للكمال والجمال، قام بإيجاد المادة وتصويرها بأدق السنن، وتنظيمها بقوانين وضوابط دقيقة، فهو بفضل علمه الوسيع وقدرته اللا متناهية، أوجد العالم وأجرى فيه القوانين، وأضفى عليه السنن التي لم يزل العلم من بدء ظهوره إلى الآن جاهدا في كشفها، ومستغرقا في تدوينها، وهذا المؤثر الجميل ذو العلم والقدرة هو الله سبحانه.
الثاني: إن المادة الصماء العمياء القديمة التي لم تزل موجودة، وليست مسبوقة بالعدم، قامت بنفسها بإجراء القوانين الدقيقة، وأضفت على نفسها السنن القويمة في ظل انفعالات غير متناهية حدثت في داخلها وانتهت على مر القرون والأجيال إلى هذا النظام العظيم الذي أدهش العقول وأبهر العيون.
إذا عرضنا هاتين النظريتين على المقدمة الرابعة لبرهان النظم، وهي قادرة على تمييز الصحيح من الزائف منهما، فلا شك أنها ستدعم أولاهما وتبطل ثانيتهما لما عرفت من أن الخصوصيات الكامنة في وجود المعلول والأثر، تعرب عن الخصوصيات السائدة على المؤثر والعلة، فالسنن والنظم نكشف عن المحاسبة والدقة، وهي تلازم العلم والشعور في العلة، فكيف تكون المادة العمياء الصماء الفاقدة لأي شعور هي التي أوجدت هذه السنن والنظم؟.