مثلا: إن تصديق كل القضايا النظرية يجب أن ينتهي إلى قضية امتناع اجتماع النقيضين وارتفاعهما، بحيث لو ارتفع التصديق بها لما أمكن التصديق بشئ من القضايا، ولذا تسمى ب " أم القضايا " وذلك كاليقين بأن زوايا المثلث تساوي زاويتين قائمتين، فإنه لا يحصل إلا إذا حصل قبله امتناع صدق نقيض تلك القضية، أي عدم مساواتها لهما. وإلا فلو احتمل صدق النقيض لما حصل اليقين بالنسبة. ولأجل ذلك اتفقت كلمة الحكماء على أن إقامة البرهان على المسائل النظرية إنما تتم إذا انتهى البرهان إلى أم القضايا التي قد عرفت.
وعلى ضوء هذا البيان نقول: كما أن للقضايا النظرية في العقل النظري قضايا بديهية أو قضايا أولية تنتهي إليها، فهكذا القضايا غير الواضحة في العقل العملي، يجب أن تنتهي إلى قضايا أولية وواضحة عنده بحيث لو ارتفع التصديق بهذه القضايا في الحكمة العملية لما صح التصديق بقضية من القضايا فيها.
فمن تلك القضايا البديهية في العقل العملي، مسألة التحسين والتقبيح العقليين الثابتين لجملة من القضايا بوضوح، مثل قولنا " العدل حسن " و " الظلم قبيح " و " جزاء الإحسان بالإحسان حسن " و " جزاؤه بالإساءة قبيح ".
فهذه القضايا قضايا أولية في الحكمة العملية والعقل العملي يدركها من صميم ذاته ومن ملاحظة القضايا بنفسها. وفي ضوء التصديق بها يسهل عليه التصديق بما يبنى عليها في مجال العقل العملي من الأحكام غير البديهية، سواء أكانت مربوطة بالأخلاق أولا، وتدبير المنزل ثانيا، وسياسة المدن ثالثا، التي يبحث عنها في الحكمة العملية.
ولنمثل على ذلك: إن العالم الأخلاقي يحكم بلزوم تكريم الوالدين والمعلمين وأولي النعمة، وذلك لأن التكريم من شؤون جزاء الاحسان