مستقلا في إدراك حسن الصدق وقبح الكذب، فلا إشكال في أن ما أمر به الشارع يكون حسنا وما نهى عنه يكون قبيحا، لحكم العقل بأن الكذب قبيح، والشارع لا يرتكب القبيح، ولا يتصور في حقه ارتكابه.
وأما لو لم يستقل العقل بذلك، فلو أمر الشارع بشئ أو نهى عنه أو أخبر بحسن الصدق وقبح الكذب فلا يحسن لنا الجزم بكونه صادقا في كلامه حتى نعتقد بمضمونه لاحتمال عدم صدق الشارع في أمره أو إخباره فإن الكذب حسب الفرض لم يثبت قبحه بعد، حتى لو قال الشارع بأنه لا يكذب لم يحصل لنا اليقين بصدقه حتى في هذا الإخبار. فيلزم على قول الأشعري أن لا يتمكن الإنسان من الحكم بحسن شئ لا عقلا ولا شرعا.
وإن شئت قلت: لو لم يستقل العقل بحسن بعض الأفعال وقبح بعضها الآخر، كالصدق والكذب، وأخبرنا الله سبحانه عن طريق أنبيائه بأن الفعل الفلاني حسن أو قبيح، لم نجزم بصدق كلامه لتجويز الكذب عليه.
ثم إن الفاضل القوشجي الأشعري أجاب عن هذا الاستدلال بقوله " إنا لا نعجل الأمر والنهي دليلي الحسن والقبح ليرد ما ذكر بل نجعل الحسن عبارة عن كون الفعل متعلق الأمر والمدح، والقبح عن كونه متعلق النهي والذم " (1).
يلاحظ عليه: إن البحث تارة يقع في التسمية والمصطلح فيصح أن يقال إن ما وقع متعلق الأمر والمدح حسن، وما وقع متعلق النهي والذم قبيح. والعلم بذلك لا يتوقف إلى علي سماعهما من الشرع. وأخرى يقع في الوقوف على الحسن الواقعي أو القبح كذلك عند الشرع، فهذا مما لا يمكن استكشافه من مجرد سماع تعلق الأمر والنهي بشئ إذ من المحتمل أن يكون الشارع عابثا في أمره ونهيه. ولو قال إنه ليس بعابث، لا يثبت به نفي