كالخلاف فيما قبل الشرع وحاصل ما فسر به العلماء الشبهات أربعة أشياء أحدها تعارض الأدلة كما تقدم ثانيها اختلاف العلماء وهى منتزعة من الأولى ثالثها ان المراد بها مسمى المكروه لأنه يجتذبه جانبا الفعل والترك رابعها ان المراد بها المباح ولا يمكن قائل هذا ان يحمله على متساوي الطرفين من كل وجه بل يمكن حمله على ما يكون من قسم خلاف الأولى بان يكون متساوي الطرفين باعتبار ذاته راجح الفعل أو الترك باعتبار أمر خارج ونقل ابن المنير في مناقب شيخه القبارى عنه انه كان يقول المكروه عقبة بين العبد والحرام فمن استكثر من المكروه تطرق إلى الحرام والمباح عقبة بينه وبين المكروه فمن استكثر منه تطرق إلى المكروه وهو منزع حسن ويؤيده رواية ابن حبان من طريق ذكر مسلم اسنادها ولم يسق لفظها فيها من الزيادة اجعلوا بينكم وبين الحرام سترة من الحلال من فعل ذلك استبرأ لعرضه ودينه ومن أرتع فيه كان كالمرتع إلى جنب الحمى يوشك ان يقع فيه والمعنى ان الحلال حيث يخشى أن يؤل فعله مطلقا إلى مكروه أو محرم ينبغي اجتنابه كالاكثار مثلا من الطيبات فإنه يحوج إلى كثرة الاكتساب الموقع في أخذ ما لا يستحق أو يفضى إلى بطر النفس وأقل ما فيه الاشتغال عن مواقف العبودية وهذا معلوم بالعادة مشاهد بالعيان والذي يظهر لي رجحان الوجه الأول على ما سأذكره ولا يبعد ان يكون كل من الأوجه مرادا ويختلف ذلك باختلاف الناس فالعالم الفطن لا يخفى عليه تمييز الحكم فلا يقع له ذلك الا في الاستكثار من المباح أو المكروه كما تقرر قبل ودونه تقع له الشبهة في جميع ما ذكر بحسب اختلاف الأحوال ولا يخفى ان المستكثر من المكروه تصير فيه جرأة على ارتكاب المنهى في الجملة أو يحمله اعتياده ارتكاب المنهى غير المحرم على ارتكاب المنهى المحرم إذا كان من جنسه أو يكون ذلك لشبهة فيه وهو ان من تعاطى ما نهى عنه يصير مظلم القلب لفقدان نور الورع فيقع في الحرام ولو لم يختر الوقوع فيه ووقع عند المصنف في البيوع من رواية أبى فروة عن الشعبي في هذا الحديث فمن ترك ما شبه عليه من الاثم كان لما استبان له أترك ومن اجترأ على ما يشك فيه من الاثم أوشك ان يواقع ما استبان وهذا يرجح الوجه الأول كما أشرت إليه * (تنبيه) * استدل به ابن المنير على جواز بقاء المجمل بعد النبي صلى الله عليه وسلم وفى الاستدلال بذلك نظر الا ان أراد به انه مجمل في حق بعض دون بعض أو أراد الرد على منكري القياس فيحتمل ما قال والله أعلم (قوله كراع يرعى) هكذا في جميع نسخ البخاري محذوف جواب الشرط ان أعربت من شرطية وقد ثبت المحذوف في رواية الدارمي عن أبي نعيم شيخ البخاري فيه فقال ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام كالراعي يرعى ويمكن اعراب من في سياق البخاري موصولة فلا يكون فيه حذف إذ التقدير والذي وقع في الشبهات مثل راع يرعى والأول أولى لثبوت المحذوف في صحيح مسلم وغيره من طريق زكريا التي أخرجه منها المؤلف وعلى هذا فقوله كراع يرعى جملة مستأنفة وردت على سبيل التمثيل للتنبيه بالشاهد على الغائب والحمى المحمى أطلق المصدر على اسم المفعول وفى اختصاص التمثيل بذلك نكتة وهى ان ملوك العرب كانوا يحمون لمراعى مواشيهم أماكن مختصة يتوعدون من يرعى فيها بغير اذنهم بالعقوبة الشديدة فمثل لهم النبي صلى الله عليه وسلم بما هو مشهور عندهم فالخائف من العقوبة المراقب لرضا الملك يبعد عن ذلك الحمى خشية ان تقع مواشيه في شئ منه فبعده أسلم له ولو اشتد حذره
(١١٨)