ليناسب حجم المحاذير والرغائب كان " الحسين بن علي " وقد أقفل عائدا من مكة إلى كربلاء بعد أن قطع الحج وترك الذين ينتظرون خطبته على عرفة... كان يدرك وهو يصارح من انسحب خلفه من القوم أن كثيرا منهم لا يريد سوى الدنيا وكان صادقا معهم وهو يقول عشية السفر: " ألا ومن كان فينا باذلا مهجته موطنا على لقاء الله نفسه، فليرحل معنا فإني لا أرى الموت إلا سعادة والحياة مع الظالمين إلا برما... " وقد انسحب عنه الكثيرون بعد أن أدركوا حقيقة ما قاله الفرزدق " قلوبهم معك وسيوفهم عليك " وبقي القلة من الذين كان حاديهم يقول: " لوددت أني قتلت وأحرقت ثم أحييت يفعل بي ذلك سبعين مرة ما توانيت عنك ".
درس في ترسيم العلاقة مع الله... العلاقة الدائمة غير الرسمية أو الموسمية مع أوامر الخالق... العلاقة التي لا تقتصر على طقوس الصلاة والصيام فحسب بل تتعداها إلى كل ما يدور في حياة المسلم وما يتعلق بواقعه داخل المسجد وخارجه وهو درس غائب عن هذه الجماهير التي استهلكتها الحياة المادية بشهواتها وعوارضها... درس يندر اليوم أن يتجسد في " نموذج " يقارب ولو من بعيد نموذج الحسين وصحابته الذين ماتوا دفاعا عن حقهم في الكرامة والشهادة.
ما أحوج الأمة اليوم، وهي تضع رقبتها على حد المقصلة، وتدافع عن كرامتها بمزيد من التبعية والاستسلام، وتتسرب من خلايا أعدائها وعيونهم لتخنق شعوبها... ما أحوجها إلى وقفة مع " عاشوراء " وما تجسد من فكر في التضحية والالتزام بالحق ومواجهة الباطل وجنوده... والاستعلاء على وسخ الواقع وطين الوعود والخوف على شهواته الزائلة... فمن قال إن مصلحة الأمة في الراحة والذلة ومن قال إن مصلحة الوطن في حسن التعامل مع الواقع المهين بمفرداته وآلياته