من ذلك، لو لم نقل إنها إلى الثالثة أقرب. لأن الآيات واقعة في سياق الدعوة إلى الإيمان والندب إلى الطاعة وترك المعصية، فيدل على تيسير سبيل الوصول إلى كل واحد منهما. قال سبحانه: * (ثم السبيل يسره) * (1). وبذلك يظهر أن القول بدلالة الآيات على الذاتيين منهما، قول بلا دليل.
وأما ما اعتمد عليه الرازي من قوله: " إنه تعالى حكم الآن على بعض أهل القيامة بأنه سعيد وعلى بعضهم بأنه شقي " وأسماه دليلا قاطعا، فهو بالمغالطة أشبه منه بالدليل. وذلك لأنه أخذ زمان الحكم زمانا لنتيجته وأثره، فالحكم منه سبحانه وإن كان في زمن نزول الآية لكن زمان الاتصاف هو يوم القيامة، فكيف قال إنه تعالى حكم الآن على بعض أهل القيامة بأنه سعيد (فعلا) وعلى بعضهم بأنه شقي (كذلك)، وإنما حكمت الآية في زمن النزول بأن الناس يتصفون في المستقبل بأحدهما لا في زمان الحكم القائم بالحاكم. فاستفادة كون الأشخاص سعداء أو أشقياء بالفعل وفي زمن نزول الآية ناشئ عن الخلط بين زماني الحكم الاتصاف، فالحكم فعلي والاتصاف استقبالي. فعندئذ لا تدل على ما يتبناه من كون السعادة أو الشقاء حليف الإنسان وأليفه في الدنيا، وأنه بالفعل من زمن طفولته إلى كهولته وهرمه، محكوم بأحد الحكمين.
وأما إرادته سبحانه أو علمه الأزلي، فلا شك في عمومهما لكل حادثة وظاهرة، ومن المعلوم أنه لا يتطرق التغير إليهما وإلا عاد جهلا. ولكن سبق تلك الإرادة والعلم لا يستلزم الجبر لو لم نقل إنه يؤكد الاختيار، لما علمت من أنهما لم يتعلقا بصدور الفعل مجردا عن مبادئهما والخصوصيات المكتنفة بهما، وإنما تعلقا على أن يصدر كل منهما من الإنسان بالخصوصية الموجودة فيه، ومنه الاختيار. فقد تعلقت إرادته وقضى بعلمه سبحانه على