وبذلك يسهل عليك فهم ما جاء في الآية التالية من التفريق بين الهداية والضلالة حيث يقول سبحانه: * (قد جاء الحق وما يبدئ الباطل وما يعيد، قل إن ضللت فإنما أضل على نفسي، وإن اهتديت فبما يوحي إلي ربي إنه سميع قريب) * (1) فترى أنه سبحانه يأمر عبده بأن ينسب الضلالة إلى نفسه والهداية إلى ربه، مع أنه سبحانه ينسبهما في آيات أخرى إلى نفسه ويقول:
* (فيضل الله من يشاء ويهدي من يشاء وهو العزيز الحكيم) * (2). وما هذا إلا لأن الهداية والضلالة بما أنهما من الأمور الواقعية في الكون تنتهي وجودا إلى الله سبحانه، فينسبهما من حيث الوجود إلى نفسه سبحانه. وأما من حيث المناشئ والحوافز التي تنزلهما إلى العبد، فبما أن الهداية نعمة من الله سبحانه لا يستحقها الإنسان بذاته، بل تعمه كرامة منه تعالى، فينسبها إلى الله تعالى من هذه الجهة ويقول: * (وإن اهتديت فبما يوحي إلي ربي) *.
وربما أن الضلالة نقمة يستحقها الإنسان لتقصيره في اتباع الرسل والاهتداء بالكتب، صار أولى بأن تنسب إلى العبد، ويقول: * (قل إن ضللت فإنما أضل على نفسي) *.
وبهذا البيان يرتفع ما يتراءى من الاختلاف بين نظائر هذه الآيات.
وبكلمة واحدة، إن الآيات من حيث المساق مختلفة، فعندما يلاحظ الظاهرة سواء أكانت حسنة أو سيئة، هداية أو ضلالة بما أنها من الأمور الواقعية الإمكانية لا تتحقق إلا بالانتماء إلى الواجب تعالى والصدور منه ينسبها إلى الله تعالى. وعندما يلاحظها من حيث المناشئ والدواعي التي تنزلها من عالم الغيب إلى عالم الشهادة، فليس للحسنة والهداية منشأ إلا الله تعالى، كما أنه ليس للسيئة والضلالة منشأ، سوى تقصير العبد في حياته كما عليه الآيات الكثيرة. ولأجل ذلك نرى أن الحديث القدسي المنقول عن